مقالات الرأي

أزرار الفهم

عثمان ناجي

في مرات كثيرة، يصعب فهم العالم بتفاصيله الدقيقة و حتى التافهة أحيانا. أمضيت سنوات و أنا لا أحاول أن اكتشف سر بعض مفاتيح أجهزة التلفزيون القديم الذي كان يتوسط غرفة الجلوس ،كأنه سلطان محاط بحواريه و أتباعه.


التلفزيون القديم كان يصر على أن الفرجة السليمة لا تحتاج الألوان،بل فقط أسود قاتم و أبيض بريء.كل شيء فيها يأتي مقسما بعدالة عجيبة بين السواد و البياض.مع ذلك،يزين جانب الآلة الأيسر طابور مهيب من الازرار لا يجرأ أحد على الضغط عليها مخافة العطب أو وقوع حدث جلل.

تشبه تلك الازرار نياشين عسكرية براقة تتربع فوق بذلة ملوك و رؤساء دول يعرف القاصي و الداني أنهم لم يذهبوا أبدا لأي حرب،و لا اطلقوا رصاصة واحدة في كامل حياتهم.


قال فريدريك نيتشه :”نسيان غاية المرء هو أكثر أشكال الغباء انتشاراً .”


قطعا،هناك سبب لوجود الازرار العجيبة.ثم إن أشياء العالم و أحداثه تشبه دياناته،تحفل بحركات و أقوال يرددها الناس و المؤمنون بلا تفكير ،بعد أن فوضوا أمر التفسير و الشرح للعلماء و الفلاسفة و رجال الدين.


هذه الأيام،اكتشف عمال و عاملات القطاع العام أن نهاية الشهر تمر دون أن تسقط الدراهم الرنانة المعتادة في حساباتهم البنكية القاحلة.


سيكون من غير المفيد ان نسأل عن سبب هذا الجفاف الاستثنائي،فهؤلاء يتذكرون بحسرة ،و ربما بتنهيدة عميقة،ان الدراهم قد سبقت موعدها و أصابتها مصاريف العيد و توابعه في مقتل،فقضت نحبها قبل الأوان.


هذا واحد من أزرار الدولة الخفية.
من دون مال،سيقبع الموظف في بيته،و يطبق حجرا صحيا دونما حاجة للقايدات المشهورات اللواتي ظهرن السنة الماضية في بداية الجائحة،ينهرن و يصحن في شوارع البلد.


خلدت واحدة منهن عبارة شهيرة:”الناس تموت،و انت تضحك..”
لا يا سيدتي،انا اسخر من غباء العالم لا غير.و لست أملك سوى سخريتي،بعد أن تعذر علي الفهم.
تطورت الدنيا و اختفت الازرار بعد أن فقد التلفزيون هيبته،و انتهى به المطاف معلقا على الحائط مثل جثة سارق تتدلى من فوق سور المدينة.


اختفت الازرار و القايدات و الدراهم و حتى متعة العيش.
لم يتبقى سوى عداد الإصابات و ذعيرة تتربص بكل من حاول أن يعيد السفر إلى بهاءه الأول.
“عودة الزّمن للوراء: أشْهر أمنية اتّفقت عليها البشريّة. “مارك توين،كاتب أمريكي(1835-1910)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock