فن وثقافة

من يوميات معلمة في نواحي كرامة:(3)

فاضمة موحى.

رغم معاناتي، في أيامي الأولى من العمل ، في هذا العالم، المنسي، الغريب عني بعيدا عن عائلتي، واحساسي الدائم بأني في منفى، إلا أني احتفظ بذكريات جميلة وأيام مميزة ،قضيتهاهناك، متأثرة بتلك الأجواء خصوصا إني مع مرور الوقت نجحت في التأقلم والتكيف مع الوضع وتكوين صداقات مع سكان “اغرم”. الحلقة الثانية.


قرار استقالتي لم يكن سهلا ،رغم نظرات أبي التي تتوسل إلي بالتراجع، فهو ضد فكرة هجرتي، حتى لو كان الأمر يتعلق بالإقامة عند أخي بعد قيامه بكل إجراءات سفري، ونجاحه في العثور على وظيفة لي ومتابعة دراستي في نفس الوقت هناك…

لكن أبي له رأي آخر، لا يطيق بعدي عنه، ويؤمن بفكرة “قطران بلادي ولا عسل البلدان”لاسيما وأنا بنته الوحيدة وحتى لو تعود على بعد أخي فهو رجل كما يقول مسؤول فكيف أغيب عنه أنا ايضا.

“كرامة” بالنسبة له حتى وإن كانت عالما منسيا لكنه يستطيع كلما اشتاق إلي أن يأتي صحبة امي لرؤيتي،ولولا التزاماته وعمله لفكر في العيش في البادية ومرافقتي خصوصا بعدما أصبحت اتأقلم مع الوضع، لكن تشجيع اخي لي في اكتشاف العالم الآخر كان سببا في اتخاذ هذا القرار، فلدي أحلام وآفاق،لم يدر بخلذي يوما أن تكون نهايتي بين اربع جدران وقسم، منفى،ودروس مكررة…

دخولي هذا الميدان كان عن طريق الصدفة فقط، ظروف الشوماج والانتظار أجبرتني على القبول لخوض التجربة في انتظار غد أفضل، فكيف لي أن اكون مدرسة وأنا لا أزال احتاج دروسا؟ أسئلة كثيرة كانت تتبادر إلى ذهني كلما نظرت إلى هؤلاء التلاميذ، أطفال في عمر الزهور، في حاجة إلى عناية خاصة وأستاذ مستمع جيد صبور متفهم له تكوين وثقافة واسعة في كل الميادين حتى يتمكن من احتوائهم ودعمهم نفسيا قبل تعليمهم.

لا يعقل أن يكون شاب في مقتبل العمر في بداية الطريق مدرسا وهو لا خبرة له ولا تكوين فكيف له أن يفهمهم ويتفهمهم، هو نفسه في حاجة إلى من يفهمه؟ التدريس مهنة مقدسة تحتاج صبرا ومجهودا وحكمة ونضجا، خبرة في الحياة، تحتاج تخصصا وتكوينا وتأطيرا،وقبل ذلك تحتاج من يحبها، من يريدها ويرغب في ممارستها،وليس أيا كان!!

أنا أقدس هذه المهنة، لكنها ليست حلما ولا أمنية. أحلامي في مكان آخر وميادين أخرى، لدي طموحات، ولا خبرة لي حتى الآن في الحياة، أشعر طيلة الوقت أني مجرد طفلة أو تلميذة كهؤلاء التلاميذ، هذا يدفعني إلى معاملتهم بتلقائية دون رسميات، طفلة أبدو مرحة مشاغبة أحيانا وتارة خجولة حسب المواقف التي تجمعني بهم…

كما اقوم دوما بمنحهم حلوى تشجيعا لهم على مراجعة الدروس، فحبهم للحلوى أو”تحبيزوتين”كما يسمونها يجعلهم دوما يتنافسون في انجاز التمارين والحفظ. أضحك ليلا كلما قمت بتصحيح كراريسهم، فالقط يصبح “موشن” والأرنب “اقنينون”…

كما أن عدد التلاميذ لا يتعدى العشرة في الصف الأول واثنا عشر في الصف الثاني حيث أن لكل مدرس صفين، تتعالى ضحكاتي في المنزل لا شعوريا…وحيدة أنا لا يعيش معي سوى أصدقاء من نوع آخر، سلحفاة ضخمة إسمها “رانا”والضفدع العملاق “ماوتي”، اسمع نقيقه ليلا، والكلبة ريتشا التي أجود بما تبقى من طعام أضعه في صحن أمام المنزل وأحيانا أتركها تدخل إلى الحوش حيث يوجد بئر وحوله يتمرغ ماوتي ورانا في حرية…

يتوقف حبل أفكاري فجأة وأنا استرجع صوتها، أوساذة، اوساذة “رضا مجاش”، وأنا أتساءل عن السبب؟ تجيب ضحى “راه فيه تاولا”…

صور كثيرة تتمايل في الذاكرة، لاغوص في عالم رضا وتاولا التي ادخلتني في دوامة الحيرة…لأذهب إلى بيته صحبة ضحى أخته بعد الحصة ونحن نقطع الوادي لنصل إلى “أغرم اقديم”،حيث تقيم عائلة رضا هي وبعض العائلات،فهي عائلات لا تنتمي إلى “أغرم” بل هم رحل “آيت سغروشن” يقيمون بالخيام في الجبال، نزحوا مؤخرا إلى اغرمان للاقامة في بيوت مهجورة تركها أصحابها بعد بناء منازل جديدة مستقلة ومجهزة بالماء والكهرباء، كما أنهم يشتغلون في الفلاحة كخماسين أو يكترون الحقول والمياه من سكان اغرم الذين هاجروا إلى المدن سواء للعمل هناك أو الاستقرار وتعليم أولادهم لضمان مستقبلهم في مدارس خاصة أو جامعات ممن يرفضون أن يلتحق أولادهم بالداخلية أو الخيرية في كرامة بعد الحصول على الشهادة الإبتدائية؛ مما يضطرهم للاستعانة بهؤلاء النازحين في الاعتناء بالمنزل والمواشي والفلاحة إما كعمال بأجر شهري أو الاتفاق على نسبة المحصول من ذرة أو شعير او قمح ،لوبية وزيت في موسم الزيتون،و لوز، أو تربية الغنم الكسيبة،والابقار…

فلا نجد في “اغرم” سوى شيوخ رفضو ا مرافقة أولادهم الكبار إلى المدن لتشبثهم باغرم وتعودهم على الحياة القروية، كما هو الشأن بالنسبة لعمي الحبيب مول القهوة الذي رفض مرافقة ابنه والاقامة معه في الرباط بعد موت زوجته الأولى بل فضل الزواج من جديد “بقشو” والمكوث في اغرم، مما يدفع أولادهم إلى تخصيص راتب شهري لهم وتوفير ما يحتاجونه وإرسال المواد الغذائية أحيانا لهم في الحافلات أو الطاكسيات كل حسب المدينة التي يوجد بها، أو زيارتهم بين الحين والآخر محملين بكل ما يحتاجونه…

كما نلاحظ أن أغلب أطفال المدرسة هم أولاد الرحل النازحين آيت سغروشن الذين أصبحو يفضلون العيش في اغرمان حتى يتسنى لهم تعليم أطفالهم في المدرسة، اما أطفال اغرم قليلون جدا فهم فقط أولاد بعض المطلقات اللواتي عدن إلى أحضان ذويهم بعد زواج فاشل محملات بطفل أو طفلة لتبدأ رحلتهن مع المسؤولية لكون اغلبيتهن لا يحصلن على نفقة مما يدفعن إلى ترك اطفالهن للوالدين والذهاب للعمل في المدن، لتصبح الجدة أو الجد هما المسؤولان عنهم، إضافة إلى استفادة العديد منهن خصوصا بعض النازحات الأرامل من تيسير التي تساهم في تحسين وضعهم المادي بعض الشيء في هذا العالم المنسي.

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock