فن وثقافة

من يوميات معلمة في نواحي كرامة:(4)

رغم معاناتي، في أيامي الأولى من العمل ، في هذا العالم، المنسي، الغريب عني بعيدا عن عائلتي، واحساسي الدائم بأني في منفى، إلا أني احتفظ بذكريات جميلة وأيام مميزة ،قضيتهاهناك، متأثرة بتلك الأجواء خصوصا إني مع مرور الوقت نجحت في التأقلم والتكيف مع الوضع وتكوين صداقات مع سكان “اغرم”. الحلقة الثالثة.


” يو”،”ايو”،يو”،تنادي ضحى وهي تجري نحو الداخل معلنة قدومي، ونحن نتوغل داخل دهاليز اغرم اقديم، لنصل إلى أحد الأبواب الخشبية العتيقة…وأنا أتساءل كيف يعيش هؤلاء الرحل، داخل هاته البيوت الطينية المهجورة دون ماء ولا كهرباء،وبعضها آيل للسقوط…

وكيف يصلون إلى هنا ليلا في الظلام وهم يقطعون الوادي دون خوف لأسمع صوتا يقطع حبل أفكاري مرحبا مرحبا تلموعليمت,” أرد التحية وأنا أنظر إليها ،سيدة مسنة عيناها خضراوان، ذات وشم في الجبين والأنف والذقن، وحتى العنق، واثار جمال أمازيغي لاتزال صامدة على محياها…

تبتسم في حنان لأكتشف بعض أسنانها الفضية المكسورة ،أتمعن في ملامح وجهها المتعب الأسمر بفعل لهيب الشمس، بزيها التقليدي السغروشني الحزام الحريري والأساور والخواتم من معدن “نقرة ونحاس”،صدرها المزين بقلادات مختلفة من لوبان وعقيق، وخيوط تضع “تسبنيت” على رأسها و”تعصابت” تظهر ضفائر شعرها الأصفر الذي يغلب عليه الشيب.

أدخلني حيث يرقد رضا، آه رضا ماذا جرى يا صغيري؟هذا الطفل الحيوي النشيط الذي أعزه كثيرا والذي يبذل جهده دوما في سبيل الحصول على أكبر كمية من “تحبزوتين” ليطلب مني بدلا منها العلك “ساذة عطيني تلمسكات فبلاصت تحبيزوت”،وإن كنت أنصحه راه مضيغ مسكة بزاف يدير لك حلاقم رضا،لكني فهمت الآن مدى تشبثه بالمسكة وأنا أنظر إلى باب الغرفة المكسور والملىء بالصور التي يجدها رضا داخل المسكة…

هوايته جمع الصور لإلصاقها على الباب..آه رضا لو كنت أعلم هوايتك لاشتريت لك ميكة ديال مسكة، دمعت عيني وانا أنظر إليه ،ممددا على “احنبل”،يظهر أنه من صنع جدته،ففي الجهة الأخرى من الغرفة يوجد منسج عادت الجدة إليه لتتابع العمل به،أهذا فعلا أنت يا رضا، يضع رأسه على صدر أمه،التي يبدو عليها القلق فهو ابنها البكر،لتنجب بعده ضحى التي هرعت نحوه تقبله على جبينه.رضا سادة جات تشوفك”.

طلبت منها أمها الإبتعاد في لطف، يبدو أنها في العشرين أو أقل، نحيفة لباسها عادي بيجاما حمراء على خلاف الجدة،كما أنها لا تضع وشما ،فالرحل هنا يزوجون بناتهم حتى وهن قاصرات ودون عقود زواج أحيانا بل يكتفون بثبوت الزوجية، لكن في الآونة الأخيرة أصبح العديد منهم بعد نزوحهم من الخيام إلى “اغرمان” أو بعض المدن يفضل توثيق العقود لتسجيل الأبناء في الحالة المدنية وتسهيل عملية إدخالهم إلى المدرسة…

كما أصبحوا يتفننون في اختيار أسماء عصرية لأولادهم وبناتهم عوض الأسماء القديمة،وطريقة لبسهم أيضا. “رضا انهض شوف اشنو جبت لك مسكة تحبيزوتين، دانون، البنان،اللي عزيز عليك”،وأنا أمنح بعضا منه لضحا ،لكن،رضا، يبكي تارة ويصرخ وتارة يغمض عينيه دون أن أفهم شيئا لتخبرني المرأة المسنة وهي جدته أم والده الغائب،”هات إتوشير رضا”،تشرح لي أمه وهي تحضنه،إنه قبل أيام عند مجيئه إلى المنزل طلبت منه أن يذهب إلى الحسين بوتحانوت يجيب تفتيلت والشمع ويعمر البوطة،حيت باباه مجاش بقى بايت فجبل ومكاين اللي يتسخر لنا،واخا مشى الحال رضا راه رجل مسؤول رغم صغر سنه،كيتسخر لنا مكيخافش كنعتامدو عليه ،ايوا، تلمعلمات تكمل الجدة، “وهي كتخوي لي غراف ديال اللبن: “راه اغو ديال اليوم” و تعيد تكنارت إلى مكانها غير رجع الولد تقولي هزيتي ولد حطيت واحد آخور، راه تعطل فلحانوت،حيت مالقاش الحسين بوتحانوت، مشى يصلي مغرب تسناه حتى رجع وفاش جا فداك ظلام وحدو واخا عندو ضواية صعيب الحال فطريق حدا الواد تمشي وحدك فليل راه قالنا سمع شي صوت فالواد وجاه الخوف قالنا وطى على شي حاجة وسمع غوات واش شي جرانة ولا شي حاجة مهم جا ودخل ومن داك نهار كيغوت فليل وكيضرو راسو، ولكن كيجي عادي للمدرسة اخالتي،مباين عليه والو…

قاطعتني بسرعة واييه راه كيجيه داكشي غير فليل ،ولكن البارح زاد عليه الحال بقينا ليل كامل سهرانين كيغوت وينعس ويفيق كيبكي، صرخ رضا فجأة، لا لا لا وهو يبكي وأمه تضمه اسم الله عليك، “اممينو”…

اقتربت منه رضا رضا، رفع رأسه ينظر إلي في حزن، وقد ربطت أمه رأسه بفولار، ووضعت قلادة على عنقه بها تعاويذ، حروز، لانظر إليها أتساءل وهي تقول راه جا الفقيه قرا عليه شوية وكتب ليه شي الحروز باش يدهن و يدوش بهم وعطانا شي عشوب راه صيفطنا مولاي علي صباح حيت مشى كرامة يجيبهم نبخروليه بهم…

أنا مريض أوساذة غادي نموت، مسحت دموعه وأنا اقول له لا لا مغاديش تموت غادي تبرا ونجيب لك ميكة ديال مسكة.

لا أصدق مايجري، فوجه رضا شاحب وفمه منتفخ يسيل لعابه وأمه كل مرة تمسح ليه فمو بواحد فوطة وهو لا يتحكم في فمه ويشعر بالصداع ويصرخ “هوتن هوتن”،كلما اغمض عينيه ينهض فزعا، حاولت الاستفسار فربما هي مجرد حمى وهذيان “تاولا”، لكن يديه باردتين طبيعيتين وجبينه أيضا لا حرارة مرتفعة ولا يعاني من الم باطني،ولم يأكل شيئا منذ ليلة البارحة، عاجز عن الأكل، أمامه زلافة حريرة خبز وكأس حليب ، لكنه لا يقوى على النهوض وكلما حاول أكل شيء يتقيؤه،، فماذا جرى؟وعن اي “تشيار” تتحدث أمه وجدته التي تؤكد أن هذه أعراض المس، سحر فيه العين،حسب أقوال الفقيه إمام مسجد “اغرم”.

أليس الأفضل تديوه للطبيب؟ تجيب جدته “آش غادي يدير ليه اضبيب؟” يا لإلهي صعب اقناعهم بزيارة الطبيب خصوصا انه لا يوجد طبيب ولا مستوصف هنا، وكل من يحتاج طبيبا أو دواء عليه بالذهاب إلى كرامة او الريش الرشيدية، وهم متعودون كما تقول الجدة في هذه الحالات على زيارة الفقهاء والأضرحة والتبرك بها ،لأسألها ثانية،ومتى يعود أبوه؟ الأب يغيب أياما وليالي، حيث يشتغل في الجبل مع مجموعة من الرفاق يفضلون التنقيب عن المعادن “تازولت”، فمدخولها معقول عوض البقاء في “اغرم” والفلاحة كيهبطوا آخر الأسبوع للذهاب إلى السوق يوم الإثنين حيث يقومون باقتناء كل حاجيات المنزل الأسبوعية ويعودون إلى الجبل ثانية…

ما العمل إذن واش تخليوه هكدا؟ تتعالى صرخات رضا كطعنات سكين في صدري وأنا حائرة ماذا أستطيع أن أفعل من أجله…..( يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock