امرأة بحجم الوطن.
عبد النبي الشراط
لم نكن نتوقع أن زيارة عابرة ستسافر بنا عبر التاريخ المعاصر للمغرب من خلال ذاكرة حية ممتدة في الماضي تختزل حياة وطن. شريط من الأحداث والوقائع والصور والمشاعر اختزنت صدق الانتماء وحجم التضحيات التي قدمها شخوص لم يسجل التاريخ الرسمي اسماءهم بين دفات الكتب ويافطات المؤسسات..
بوعي كبير وحس وطني تحكي السيدة (فاطمة لخميم) ما جرى بأسلوب سردي مشوق،ما عاشته وعايشته خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب.
كانت زيارة عابرة قادتني رفقة الصديق كريم الصامتي لمدينة مكناس حيث كنا في طريقنا لمدينة فاس لحضور اجتماع المكتب التنفيذي لجمعية رؤية المنعقد يوم 7 ماي 2022، فتوقفنا في العاصمة الإسماعيلية (مكناس) بناء على رغبة صديقتنا وأختنا سلوى فكري زوج الصديق والأخ خالد بوسلهام..
كانت سلوى في زيارة لوالدتها المقيمة بمكناس..
عرجنا إليها قبل مواصلة المسير لمدينة وجهتنا.. فاس..
في فيلا قديمة ( حيث تقيم رفقة أحد ابنائها السيد رشيد) لكنها غنية بالأحداث التاريخية وشاهدة عليها، تقع في حي (كورنيط – دومريك) أو (حي الدكتور جيگي) حسب الإسم القديم..
إذ كان هذا الحي ولا يزال يشكل نموذجا للتعايش الهوياتي والثقافي بين أبناء الوطن، فالمعالم اليهودية ما زالت قائمة هناك تشهد على فترة ذهبية عاشها المغاربة فيما بينهم وفي ذات الحي تشهد لحد الٱن مؤسسة تعليمية تحمل إسم (سيدتنا مريم) يوم كان المغاربة، مغاربة فقط، بدون حساسيات مذهبية ولا تيارات ايديولوجية،
هنا تقيم السيدة (فاطمة لخميم) المقاومة والمناضلة..
وبالرغم من أنها بلغت من الكبر عتيا، إلا أنها ما زالت يقظة وفطنة وذاكرتها متقدة جدا، وكأن الحدث الذي ترويه لنا حصل أمس فقط..
كانت فرحتها لا تتصور حينما سلمنا عليها وهنأناها بمناسبة عيد الفطر،
في صالة الجلوس التي تزين جدرانها صور ولوحات متنوعة، لكن تطغى هناك. صور الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، وما زالت تؤمن أنها ضمن الذين رأوا الملك محمد الخامس في وسط القمر عشية عودته من المنفى سنة 1956، تتحدث عن محمد الخامس وكأنها تعيش لحظات الأيام الأولى للاستقلال، فهي تحفظ عن ظهر قلب أغلب الأحداث والذكريات التي جرت خلال تلك الفترة التي كان يعتبرها المغاربة بداية لحلم وأمل جديدين.. (قبل أن تتبخر كل تلك الأحلام والٱمال بعد سنوات قليلة) حيث كان المغاربة يحلمون بوطن مميز يعيشون فيه بالتساوي ويتمتعون بالحرية التي قاوموا من أجلها طيلة 43 سنة من الاستعمار الفرنسي.
بالإضافة لصور الملكين الراحلين، توجد صور ها وصور زوجها المقاوم المرحوم (الجيلالي فكري).
من صور شبابها تبدو قوية وصلبة ومؤمنة بالحرية، وتحكي السيدة فاطمة التي يقترب عمرها من المائةعام، عن سر كان يخفيه عنها زوجها إلى أن اكتشفته بنفسها..
تقول: ( كنت ألاحظ دائما أن ضيوفا يدخلون بيتنا، لكن زوجي كان يغلق غرفة الضيافة بإحكام ويستمر السهر إلى ما لا نهاية أحيانا.. ثم ينصرف (الضيوف) بهدوء واحدا تلو الٱخر، وما أثار انتباهها أكثر، هو أن زوجها لم يكن يطلب منها حتى تحضير (براد شاي) لضيوفه.. فازدادت شكوكها..
ذات يوم قررت أن تسترق السمع.. فكانت بداية اكتشافها للحقيقة.. فالضيوف ليسوا ضيوفا ولذلك لم يكونوا يستمتعون بالضيافة، لقد اكتشفت أن هؤلاء يأتون عند زوجها للتخطيط لعمليات مقاومة ضد الفرنسيين فابلغت زوجها ذات ليلة أنها عرفت الحقيقة فكانت صدمة زوجها.
لقد كان المقاومين يخفون سر مقاومتهم حتى على أبنائهم وأزواجهم وذرياتهم خوفا من أن يشي بهم هؤلاء لقادة الاستعمار.. لكنها طمأنت زوجها أنها مخلصة للوطن وللملك ومع ذلك بقيت الشكوك تراوده حولها. فجلب المصحف وطلب منها أن تقسم عليه ففعلت دون تردد.. ومنذ حينئذ اصبحت شريكة زوجها في كل شيء، وانضمت لقافلة المقاومة، فنالها ما نال الرجال من سجن وتعذيب وإرهاب..
وبما أن عيون الاستعمار كانت لا تنام فقد اكتشفوا زوجها، فقاموا بنفيه من منطقة (ٱيت اسحاق إلى مدينة خنيفرة) بعد أن كان حظ شقيقه سيئا بسبب الشبه القوي بينهما فقتله الفرنسيين.
وبعد الاستقلال حيث استفاد الكثير من العملاء من الامتيازات والإكراميات رفض زوجها عروض كثيرة من الحزب الذي كان ينتمي إليه.. رفض العطاءات والإكراميات والامتيازات فكانت (فاطمة) تعاتبه فكان يصدها بقوله: ( لقد كنا نقاوم من أجل حرية الوطن وفي سبيل الله) ..
اكتفى المقاوم المرحوم بوظيفة في إدارة البريد، وحينما غادر إلى دار البقاء لم يترك لزوجته وأبنائه إلا هذا التاريخ المشرف الذي يحتاج حقيقة إلى تدوين لكي تعرف الأجيال كلها من قاوموا وجاهدوا من أجل الوطن والحرية، ومن كانوا عملاء وأصبحوا هم المستفيدون..
والتاريخ لا يرحم..
ملاحظة: هذا المقال لا يحيط بكل الجوانب.. بل يلخص بعضها فقط