لله والتاريخ.. من جديد
قرار الملك بالإمساك عن الأضحية ومعارضتي لهذا القرار..
(الحلقة الثالثة والأخيرة)
عبد النبي الشراط
حلت ليلة عيد الأضحى لسنة 1981، كان عمري ٱنذاك 21 سنة، لكن بلحية طويلة جدا وشنب حليق، ولباسي كان جلبابا مغربيا تقليديا، أبيض في الغالب.. (وعلى ذكر اللحية، فإن رجلا ما إلتقى والدي يوما في أحد الاسواق الاسبوعية بالبادية وكانوا أصدقاء طبعا، فسأل الرجل والدي: أين هو ابنك الذي أكبر منك؟ … لقد كان الوالد رحمه الله يحلق لحيته بعناية طوال حياته، وكان أنيقا في لباسه، ولذلك كنت أبدو أكبر منه شكلا بسبب لحيتي الطويلة جدا).
حلت ليلة عيد الأضحى لتلك السنة، وقد تم تهيئ مصلى كبير خارج المسجد، وكانت التوقعات أن المصلى سوف يمتلئ وكان ذلك..
الحقيقة لم أنام تلك الليلة بسبب موضوع خطبة العيد، لقد فكرت كثيرا في ألا أتطرق لموضوع مشروعية الذبح من عدمه، خاصة وكنت طيلة شهر أسهبت كثيرا في الموضوع وتجاوزت كل الخطوط الحمراء والسوداء، وأصدرت عشرات الفتاوى بعدم طاعة أمر الملك فيما يتعلق بالعيد وضرورة ذبح الأكباش، لأنها سنة سيدنا إبراهيم عليه السلام وتبعه في ذلك سيدنا محمد عليه السلام… وأجمع عليها المسلمون، بالتالي فهي واجبة شرعا ولا نقاش بذلك، وكانت هذه هي عقيدتي في ذلك الزمن، وقد تعودت أنني إذا ٱمنت بفكرة أموت من أجلها وليفنى العالم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فكرت وقدرت ثم اهتديت إلى أنه علي أن أكتب (الخطبة) وأختصر.. حتى لا يمل الناس، وحتى لا أخيف الناس، وحتى لا أسبب لهم أذى..
فكتبت الخطبة الأولى وخلال مراجعتي لما كتبت رأيت أنني صعدت الأمور كثيرا مع الملك..
مزقتها.. فكتبت الثانية فوجدتها أسوأ من الأولى.. ثم مزقتها وكتبت الثالثة فكان الفجر يقترب.. وعلي أن أقوم للوضوء استعدا للٱذان والصلاة بالناس جماعة..
أطل الصبح ولم أكتب شيئا، فقلت مع نفسي خلاص.. سوف أرتجل خطبة العيد بدون أوراق، فالكلام موجود ولن أجد صعوبة في الموضوع..
كانت هناك مشكلة أخرى من غير الخطبة والذبيحة… لقد تعود خطباء الأعياد ألا يصلوا حتى يصلي الملك وينحر كبشه باعتباره أمير المؤمنين، وبينما يقول الفقهاء بأن صلاة العيد يجب أن تكون باكرا جدا بعد شروق الشمس مباشرة، فإن الملك كان يتأخر كثيرا في ذلك، فيبقى المغاربة في جميع المساجد ينتظرونه.. وأحيانا كان الملك لا ينحر كبشه (خروفه) حتى منتصف النهار، فكانت مشكلة ثانية وهي أنه يجب علي إقناع الناس بأداء صلاة العيد في وقتها الشرعي.. فاستجاب الناس للأمر .. صعدت المكان المخصص لي كي ألقي خطبة العيد التي تصحبها تكبيرات وتهليلات إلخ.. وجدت المصلى ممتلئا بالمؤمنين الذين حجوا من جميع الدواوير المجاورة وهجروا مساجدهم وأئمتهم، وكان أهل دوار (الإدريسية) مزهوين لأن الفقيه الراتب عندهم إستطاع خلال مدة زمنية وجيزة أن يجلب لهم كل هذه الحشود من الناس.. وحسب بعض التقديرات فإن عدد المصلين تجاوز المائة، بينما كانوا في السابق يصلون العيد داخل مسجد ضيق بعدد لا يتجاوز عشرة أشخاص..
افتتحت خطبة العيد طبعا باسم الله الكريم والصلاة على النبي الامين.. وكان لابد لي أن اذكر بداية بفضائل عيد الأضحى (المبارك) وكيف أن النبي إسماعيل أطاع والده النبي إبراهيم حينما قرر ذبحه بناء على رؤية في المنام فقط.. ولا أدري كيف انتقلت من هذا المشهد الرهيب إلى تسليط الضوء على قرار الملك الذي أصدر أمرا لشعبه بالإمساك عن الأضحية ولم أترك كلاما نابيا وجارحا إلا وصفته به، إذ كيف يتجرأ الملك أن يلغي سنة الأنبياء ؟ وهكذا أطلت كثيرا دون أن انتبه لنفسي ولمن معي.. حتى رأيت أحد المصلين يشير إلي بيده.. فجأة انتبهت.. وجدت المصلى شبه فارغة من المصلين لقد انسحب أغلبيتهم المطلقة ولم يبقى بالمصلى إلا بضعة أشخاص..
لقد شعر المصلون بالخوف والتوتر من جراء ما كانوا يستمعون إليه من نقد مباشر للملك الذي كان يخشاه الشعب لمجرد أن يفتتح خطابه ب ( الحنحنة) فاضطررت لاختتام الخطبة الأولى ولم أطل في الثانية..
لكنني علمت أن أغلب المصلين نحروا خرافهم خلسة..
وهكذا اختتمت شهرا بمسجد دوار الإدريسية الواقع بين مدينتي فاس وصفرو.. وغادرت المسجد باتجاه فاس ومن ثم إلى مسقط رأسي بمنطقة جبالة ولم أعد مرة أخرى بالرغم من أن سكان الدوار ظلوا لسنة كاملة تقريبا ينتظرون عودتي أو أن يحصلوا على فقيه يشبهني.. وذات مرة جاءهم (فقيه) من منطقة فشتالة فرفضوا أن يتحذوه فقيها لهم، لكنه كان ذكيا فأبلغهم أنه درس معي في مسجد واحد على يد والدي الفقيه سي عبد السلام الشراط فقبلوا به لأنه يعرفني فقط دون أن يشبهني، ولطالما تمنيت أن أعود مرة أخرى لهذا المدشر لأخذ صورة تذكارية به ولم تسمح الظروف.
هنا تنتهي قصة العيد وأكباشه.
عيد سنة 1981.
ملاحظة هامة لله والتاريخ: من بين الأمور التي ندمت عليها بحياتي خلال معارضتي للملك الحسن الثاني رحمه الله، كانت هذه الضجة التي أثرتها حوله، وكان الأمر لا يستحق كل ذلك الضجيج أبدا..