من وحي«التعاقد.. والتظاهر»
المصطفى الشادلي /كرونو نيوز
لم نكن محايدين ولا متشفين ونحن نشاهد دماء تسيل وحشود رجال ونساء التعليم تفرق في شوارع الرباط بالطرق التي رآها الجميع على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، ويشهد الله أننا لم ننطق بكلمة ليس جبنا أو تخاذلا وإنما لأن ما شاهدناه وما سمعنا به قد أدهشنا إلى حد الصدمة التي تحير العقل وتخرس الألسنة.وبقدر ما أغضبتنا سلوكات بعض العناصر المحسوبة على الأمن والسلطة واستنكرنا تصرفها، الموسوم بالخشونة حينا وبالعنف حينا آخر، مع متظاهرين سلميين، مطالبهم اجتماعية وظيفية بالأساس وليست سياسية، بقدر ما أحسسنا بنوع من الامتعاض ونحن نشاهد تصرفات ونسمع خطابات بعض العناصر المحسوبة على الشريحة التعليمية.
علما أن رجل التعليم ينبغي أن يظل رمزا للطهر والسمو والنبل كما كان دائما في الذاكرة الجمعية. هذا من جهة.من جهة ثانية، فالعنف اللفظي أو الجسدي المتبادل لا يخدم مطالب المتظاهرين في كل زمان ومكان. وشيء طبيعي في سياق الجموع المحتشدة أن تخرج الجماهير – كما أوضح ذلك “غوستاف لبون” في سياق حديثه عن علم النفس الجماهيري في كتابه (سيكولوجية الجماهير)- عن حدود الوقار المفترض وحدود السلمية المطلوبة في أي تظاهر. فحسب تصوره، يمكن للأفراد، في إطار «الجماعة»، أن يصيروا كائنات أخرى غير ذواتهم ويصدر عنهم من العنف وغيره ما لا يصدر عنهم في مجال حياتهم الفردية الخاصة.
فالجماعة محرض ومهيج للنزعات العدوانية الكامنة في نفسيات الأفراد.وما ينطبق على الجماهير الغاضبة أو الهائجة ينطبق بالتأكيد على الطرف الآخر أي رجال الأمن والسلطة. ففي غمرة الحدث يتخلى الكل عن «الفردانية» بما تنطوي عليه من سلمية وتحكيم للعقل والعاطفة..
فيجدون أنفسهم مضطرين إلى التصرف من وحي«السلطة» ضمن توجه جماعي(حشود أمنية) وإلى التلويح بالعصا في كل الاتجاهات..أما الحكم، أي الوزارة، فهي تظل في وضعية المتفرج، تطل على الجموع من عل وتدعهم في وضع كر وفر إلى أجل غير مسمى..
لقد ضاعت الحقيقة بين حجج الوزارة وحجج الأساتذة:الوزارة تقول للمتظاهرين: كان عليكم ألا تتظاهروا..وأن تتركوا شوارع الرباط واحة أمن وسلام أمام أعين الداخل والخارج. والمتظاهرون يقولون للوزارة: كان عليك أن تلبي مطلبنا البسيط ألا وهو الحق في الترسيم داخل الوظيفة العمومية. من المخطئ الوزارة أم رجال ونساء التعليم؟. أين مكمن الحقيقة إذن؟. والحقيقة غالبا ما تضيع في التفاصيل. والشيطان دائما يكمن في التفاصيل كما يقال.
هذه التفاصيل هي التي يتوجب على وزارة التعليم وتنسيقية الأساتذة أن يتحاورا بشأنها بلغة العقل. ومن منطلق لا غالب ولا مغلوب. ومن منطلق أن مصلحة الوطن أهم من كل شيء. والمغرب ليس في حاجة إلى خلق أزمات جديدة. فله منها ما يكفيه بل له فائض يضيق عنه صدر الوطن.
فالمصلحة العليا للوطن تقتضي من كلا الطرفين نبذ العنف بكل أشكاله الناعمة والخشنة والجلوس إلى طاولة التحاور بغية إيجاد مخرج لهذه الأزمة المفتعلة.ونعتقد أنه لا الإضراب وحده ولا التعنت الوزاري والهروب إلى الأمام بإمكانهما أن يحلا المشاكل العالقة والمزمنة في المغرب الحديث.
لكن ما البديل بالنسبة لرجال ونساء التعليم؟.لقد أعياهم الصراخ ومحاولات التظاهر في شوارع المدن. والكل قد وضع أصابعه في آذانه حذار سماع صرخاتهم. لقد تخلت عنهم النقابات الكبرى الرئيسية في البلد، وهي النقابات التي كانت في الماضي تخيف الحكومات وتجبرها على الاستجابة لمطالب الشغيلة مهنية كانت أو تعليمية. ولا يهم مستوى تلك الإجابة سواء أكانت في حدها الأدنى أو المتوسط أو الأقصى، المهم أن حوارا ما بين الأطراف المتصارعة كان يتم في الماضي.
اليوم يبدو أن النقابات المسؤولة في واد، وطبقات الشغيلة في واد آخر. والحكومة في واد آخر، كأن الجميع منشغل بشيء ما أهم من مطالب العمال والأساتذة.والبرلمان صم أذنيه عن احتجاجاتهم. والأحزاب منشغلة بهمومها ومصالحها الضيقة، وبالتحضير للانتخابات المقبلة وبتوزيع الأدوار بين مكوناتها.لهذا في ظل التخلي عنها، ما كان أمام هذه الشريحة التعليمية غير حل وحيد هو التوجه نحو الرباط والتظاهر أملا في إسماع صوتها لمن يهمه أمرها.لا مخاطب سوى لسان الحال الذي يردد: إننا منشغلون بقضايا وطنية أخرى، وبما هو أهم!.والحق أن الدولة في كل سنة وفي كل المناسبات تكون منشغلة بما هو أهم. والقضايا السياسية والملفات الكبرى تكون حاضرة على الدوام.
وفي أحيان كثيرة كان الساسة يطلون على المضربين وينبهونهم إلى أن الظرف غير مناسب للمطالب وحتى للتظاهر. أحيانا يتذرع بالجفاف، وقضية الصحراء وأحيانا بالاستحقاقات الانتخابية. وربما هناك ذريعة غير مصرح بها في أيامنا هذه مفادها أن المغرب حقق مكتسبات على صعيد القضية الوطنية وهناك انتظارات تنتظره وانتصارات ومكاسب إضافية عليه أن يحضر البلد من أجل تحقيقها وحمايتها.وإذن والحالة هذه يجب فض التجمعات والاقتناع بما هو متحقق وتأجيل المطالب إلى وقت آخر في المستقبل..
والحق أن هذا الخطاب ليس جديدا. وليس كله مضللا أبدا. نعم في المغرب أولويات. لكن هل عز على دولة مؤسسات أن تحل إشكالية بسيطة في حجم إشكالية المتعاقدين؟.قلنا سابقا إنها أزمة مفتعلة. وفي الحقيقة هي كذلك. قد يستغرب الملاحظ لهذه القضية كيف أنها هولت وأحيطت بالخوف وألبست لباس إشكالية أكبر من حجمها الحقيقي.أولا هؤلاء المتظاهرون لا يطلبون شغلا، علما أن المطالبة بالشغل هي في الحقيقة ما يخيف الدولة ويدفعها إلى استحضار الإكراهات الداخلية والخارجية و واستحضار الميزانية العامة والمديونية.. وهلم جرا من الضغوطات التي تمنح الدولة حق تفريق الجموع المضربة أو المتظاهرة بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة.هم لا يطالبون بشيء مادي وإنما بشيء معنوي غير مكلف!.
هم يطالبون ب«الترسيم». لا أقل ولا أكثر. بعبارة أخرى هم يبحثون عن استقرار نفسي ومادي. الوزارة من جهتها تقول إنهم مرسمون ضمنيا في الجهات التي يشتغلون بها. طيب فلتعلن ذلك صراحة وبمرسوم كما تجري الأمور عادة في مجال الوظيفة العمومية، وكما تنزل المراسيم والقوانين في البلد.ولماذا لم تقم الوزارة بشيء من هذا القبيل؟. ماذا يحرجها وما يخيفها؟. ربما لهذا السبب تضاعفت مخاوف الشغيلة التعليمية. ولهذا السبب تصر على انتزاع حقها في الترسيم.
ونعتقد أننا لسنا في حاجة لاستحضار علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم لنبرهن للوزارة على أن الاستقرار النفسي هو عماد الوظيفة العمومية. فالبحث عن الاستقرار فطرة إنسانية. والله قال في محكم كتابه بنوع من المن والامتنان على قريش أنه «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».
والأمن بمعناه العام هو السكينة النفسية التي تمنح المرء إحساسا بالوجود وطاقة لبناء العمران ودعائم الحياة. ولا يمكن لفاقد الأمن أن يكون إيجابيا سواء بالنسبة لحياته الخاصة أو بالنسبة لدوره في المجتمع والوطن بعامة. وربما في البلدان التي لا يحترم فيها المشغلون مشغليهم ويتفننون في التحايل على أشكال الترسيم والقوانين والضمان الاجتماعي والتقاعد..إلى غير ذلك من الحقوق، يصير مطلب الترسيم شرعيا بلا منازع. والمغرب لا يشذ عن هذه البلدان طبعا. فيه الكثير من المشغلين، خاصة في القطاع الخاص، الهاضمين للحقوق والمستنزفين لعرق المشغلين والمتحايلين على قانون الشغل. وفي المغرب من القوانين طبعا ما يضاهي نظيرتها في البلدان المتقدمة.
والمشكل دائما ليس في القانون ولكن في الساهر على تطبيقه.ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام أن الوظيفة العمومية هي ملجأ المتقاعسين وأشباه المتقاعدين عن العمل. كلا!. إن ما يجعل قطاعا ما منتجا أو غير منتج هو الدولة.فحين تريد النهوض بقطاع ما وإنجاحه فهي توفر له وسائل النهوض وأسباب النجاح، وتفتح أمامه السبل المؤدية إلى الآفاق الواعدة.
والعكس صحيح أيضا حينما تريد من قطاع ما أن يصير مفلسا وفاشلا فهي ترفع يدها عنه وتترك وحوش العبث والتسيب واليأس تفعل فيه ما تشاء وتعيث فيه فسادا. وبعدما ينهار ويصير مفلسا تبدأ الأصابع بالإشارة إلى غير الأسباب الحقيقية وتحميل «المشغل»سواء أكان عاملا أو موظفا أو أستاذا مسؤوليات ما آلت إليه أوضاعهم وكذا أوضاع قطاعاتهم!.وما المانع من الاستجابة لهذا المطلب البسيط الذي يحمل اسم الترسيم ؟قد تمن الوزارة على الأساتذة بأنها أنقذتهم من البطالة وأنها وظفت أعدادا كثيرة منهم في مجال التعاقد. جميل.
لكن هل بهذه الطريقة تحل إشكالية البطالة في قطاع حيوي يعد عماد الدول والأمم؟.كلا ما هكذا يا وزارة التعليم يجب أن يتعامل مع قطاع التعليم.من الناحية المبدئية كان أحرى بالوزارة ألا تشغل غير المرسمين. فخير لها أن توظف أستاذا مرسما ومكونا أي خريج مدرسة تكوينية ما ثم تحاسبه على المردودية والإنتاجية بدل توظيف عشرة غير مكونين وغير مرسمين، لأنها في نهاية المطاف ستنتج أجيالا يائسة من الأساتذة. واليأس عدو الأفراد والمجتمعات. واليائس لا يمكن أن يطور مجال عمله ولا يمكن أن يحلم وأن يطمح إلى ما هو أرقى وأفضل.وإذن بهذه الطريقة التوظيفية ستحاول الوزارة – عن غير قصد طبعا وبحسن نية- أن تخلق أجيالا يائسة من رجال ونساء التعليم. والخاسر الأكبر في نهاية هذه اللعبة القذرة – التوظيف المزاجي والاعتباطي والتعاقدي- هم أجيال المتعلمين أو المتمدرسين والوطن برمته في نهاية المطاف. قد يجوز ويستحسن أن تطبق آلية التعاقد في مختلف قطاعات الدولة المتعددة لكن من الصعب أن نقبلها في مجال التعليم وأن نفهم دواعيها ومراميها.
وإذا كان لا بد لهذه الآلية أن تعتمد في المغرب فمن المفروض أن تسبقها ترتيبات وحوارات على صعيد الهيئات السياسية والنقابية والتعليمية. وبعد ذلك لا بأس من قبولها وتطبيقها. أما أن تنزل من السماء وتفرض على شريحة بعينها فهذا لا يفيد لا قطاع التعليم ولا قطاع الوظيفة العمومية.
وقد يكون اللهاث من قبل الوزارة نحو التعاقد جزءا من أشكال اللهاث نحو مجالات الحداثة عموما رغبة منها في استنبات نماذج إدارية غربية(موضات) في مختلف القطاعات الحيوية. لكن في غالب الأحيان قد يتحول الحق إلى باطل، عن غير عمد طبعا، وهذا ما يجعل حسن النية أحيانا سببا للخراب والهلاك. نعم للحداثة في كل شيء لكن لا بد من توفير قواعدها وآليات اشتغالها. أما أن تستورد نماذج غربية متصلة بقطاع التعليم ثم تنزل بشكل تعسفي في واقع مخالف لواقعها الأصلي كالواقع المغربي فهذا ضرب من العبث.
فلا يجب أن ننسى بأن لكل بلد خصوصيته الاجتماعية والمادية والحضارية.قد نزعم أن هناك في هذا الوطن الحبيب من آل على نفسه حلفة أن يغتال أية فرحة ترتسم على وجه معانق أو معانقة لوظيفة عمومية. وكأن قدر أي مقبل على الوظيفة العمومية أن يحمل بداخله جرحا غائرا مدى الحياة كنوع من الضريبة أو العقاب على اختياره لمجال ربما ليس مجاله.
أملنا أن يظهر في الأفق من الآمال ما يبدد وساوسنا، وأن تبدي الوزارة من الأفعال البيضاء والتعامل الإيجابي مع مطالب رجال ونساء التعليم ما يفند مزاعمنا. وما ذلك عليها – إذا توفرت الإرادة الصادقة- بعزيز.