الجامعة الشعبية والجامعة العصرية
د. المصطفى الشادلي /كرونو نيوز
استرعى انتباهي صوت هاتف يسائلنيي: من فضلك، ما هي الوثائق التي يتطلبها التسجيل في الجامعة الشعبية؟.
قلت: في جامعتنا؟. قال الصوت الهاتف: لا. أنا لم أكمل دراستي الجامعية.. فبعد توقف دام زهاء سنتين أريد العودة إلى الجامعة.. لقد قيل لي إن هذه الجامعة مفتوحة في وجه العموم.
قلت: عجيب. لم أسمع بجامعة من هذا النوع!. لكن لا بأس. لا داعي للقنوط سوف أتأكد من المسألة وأرد عليك قريبا.
ولم يكد يمر إلا وقت وجيز على هذه المكالمة الهاتفية حتى أبصرت لافتة تتوسط أحد شوارع المدينة، مكتوب عليها بحروف بارزة « ..محاضرة في فضاء الجامعة الشعبية»!.
تأملتها مليا. وإذا بها مجموعة من الكلمات المتداخلة في شكل ما سماه العالم اللغوي الشهير “فردناند دي سوسور” ب«العلاقات الإيحائية». والحق أنها أثارت في نفسي جملة من الإيحاءات التي آثرت أن أحولها إلى محطة للتساؤل، آملا أن تكون بدورها منطلقا لحوار مثمر بخصوص واقع الجامعة المغربية.
بادئ ذي بدء، لقد كان مستهل تلك الإيحاءات مصبوغا بصبغة تفاؤل. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لروح كل متأمل؛ مسكونة بالغيرة على مؤسسة نبيلة في حجم الجامعة المغربية. فما عتمت أن قلت مغتبطا: حسنا!. ما أحوجنا إلى مثل هذه المبادرة. وكثر الله أمثال هؤلاء الجنود المجهولين الذي يحاربون أعداءنا التقليديين الكثر المتربصين بنا الدوائر في كل الأزمنة والأمكنة والذين يعرقلون نهضاتنا، ويكبحون جماح عقولنا وأرواحنا الظمآنة؛ المشرئبة دوما بأعناقها نحو منابع النور الكامنة في قمم الغد، والمهووسة بالالتحاق بركب التقدم العلمي والأدبي. وفي طليعة أولئك الأعداء الظلاميين عدو شهير اسمه «الجهل»!.
وأردفت: ما أجمل تلك الأيادي البيضاء التي تحاول جاهدة التصدي لذلك العار الذي يحاول أن يلحقه تصنيف هؤلاء الحاسدين الأجانب بوطن كريم – غني بخيراته وبطاقات أبنائه مثل وطننا العزيز- والذي لا يتردد في وضعه في درجة مخجلة على سلم التنمية، ولا ينفك يشير إليه باعتباره بلدا ناميا يحطم أرقاما قياسية على مستوى ارتفاع نسبة الأمية بين أبنائه.
وانعم بها من صحوة ضمير، تلك التي أبت إلا أن تهب إلى التكفير عن ذنب «سياسات التجهيل المتراكمة» الذي ارتكب في حق طبقات هذا الشعب منذ سنوات عديدة، وذلك بمحاولة محو الحدود بين الأرياف والحواضر، بين عامة الشعب وخاصته، والعمل بتفان وإيثار ليل نهار على تصيير هذا الوطن الحبيب ببواديه ومدنه، بسهوله وأنهاره وجباله، فضاء رحبا ترفرف فيه أنسام المعرفة، تماما كما ترفرف الأطيار والفراشات حرة طليقة بيت التلال والزهور؛ غير مؤمنة بتفاهات التمييز اللغوي الذي وضعه الإنسان بين “العام” و”الخاص”، بحيث لا تقول : هذا وادي الخاص.. وتلك أشجار عامة. أو كما ترفرف روائح الزهور بين فضاءات الطبيعة غير معنية بالفوارق القائمة بين مرتفعات الهضاب والجبال وبين منخفضات السهول والسفوح.
وأكرم بها من مبادرات، تلك التي تعمل في السر والعلن حينا وفي هوامش ومراكز المدن حينا آخر بعيدا عن ذلك الضجيج الذي تحدثه مواسم الدخول الجامعي والمدرسي عموما، ولسان حالها يردد: ما نفعله خالص لوجه الله لا نبتغي من ورائه جزاء ولا شكورا..واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان!.
لكن سرعان ما صرفتني انشغالاتي اليومية عن اللافتة وصرت أتسكع في دروب الحياة معيدا التفكير في تلك الجمل العالقة بذاكرتي. وإذا بي كأنني أفقت من غيبوبة فكرية وروحية شبيهة بتك التي استولت على أرواح أهل الكهف.
وأحسست بما أحس به هؤلاء بعد اليقظة من ذهول وعجب وأنا أتأمل الوجود بغير العيون التي كنت أشاهده بها من ذي قبل. وإذا «الدنيا كما نعرفها ..وإذا الأحباب كل في طريق»– على حد تعبير الشاعر إبراهيم ناجي – لكن ليس أي طريق، وإنما طريق الجهل بأشكاله البسيطة والمركبة. وإذا الجامعة هي الجامعة في وضعها الذي لا تحسد عليه، وإذا حياة الناس كما كانت دائما صغيرة وتافهة. وسلوكهم لا يزال على حاله لا ينبئ بأنه تغير إلى الأحسن، ولا يدل على أنه ابنا شرعيا لأب روحي اسمه «التعليم».
بل على العكس ما يلاحظ هو ازدياد أشكال من الممارسات المتخلفة من سرقة واغتصاب وقتل ومتاجرة في المخدرات ونصب واحتيال وإرهاب..والقائمة تطول. وكلها سلوكات لا تنمو وتزدهر إلا في البيئات التي تتراجع فيها قيم الثقافة والعلم وتنتشر فيها قيم المال والجهل.
وهي مظاهر تؤكد حقيقة أساسية وهي أن التعليم لم يلعب الدور المنوط به، ولم يحقق الآمال المعقودة عليه بعد. وإذا بي أجدني مضطرا إلى إعادة قراءة الوقائع المغربي وأقارن بين الظواهر والتسميات وأشكال اللغة التي تخدعنا ببريقها حينا وبمضامينها الإيديولوجية حينا آخر، والتي تحول بين عيوننا وأفكارنا وبين إقامة فهم صحيح للكلمات والأشياء.
وكان المنطلق أن تساءلت:
هل هناك تقسيم في الدنيا يقسم الجامعة إلى شعبية وغير شعبية قد تكون عصرية أو حديثة؟. وصرت أقلب فكري بين المصادر الثقافية واللغوية وبين الوقائع الشرقية والغربية. ولا أكتمك- قارئي العزيز- بأنني فشلت في العثور على أثر ما لمثل هذه التقسيمات. ولكنني أصارحك بأنني وجدت تقسيمات شهيرة بين العلم والجهل، بين التقدم والتخلف، بين النور والظلام.. وهلم جرا عبر قائمة طويلة من الثنائيات العديدة التي تشبهها..
وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق رفعا للالتباس:
أولا – إن الجامعة في كل زمان ومكان في الغرب كما في بلاد الشرق كانت منذ أقدم العصور جامعات خاصة. لكن ليس بالمعنى الذي يحيل على مفاهيم الخوصصة وما يشبهها. وإنما بالمعنى الذي يدل على أنها مؤسسات مقصورة على نخب المجتمع. وشتان بين الأمس واليوم. إن الأسباب التي جعلت التعليم في الماضي مقصورا على الخاصة هو انتشار الفقر بين طبقات الشعب العربي، ناهيك عن افتقاد وسائل المواصلات. والقلة القليلة المحظوظة هي التي تستطيع قهر الصعاب والمسافات لكي تلج جامعة القرويين في فاس أو جامعة الزيتونة بتونس أو جامعة الأزهر بمصر.
ثانيا- إن هذه المراكز الجامعية ما تزال إلى يومنا هذا مقصورة على الخاصة. فمن ذا الذي يستطيع الزعم بأننا بلغنا بالفعل مستوى التطور والنمو الذي يجعلنا نتحدث عن جامعة عامة؛ مفتوحة أمام الكتلة الضخمة من طبقات الشعب؟!. وهنا يجب أن نميز بين المراكز التعليمية المحسوبة على القطاع الخاص – جامعة الأخوين- والجامعة بمعناها التقليدي الذي يشمل العديد من الجامعات المغربية. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: كم هي النسبة من الشعب المغربي التي تلتحق بالجامعة التقليدية؟. إنها، طبعا، نسبة جد ضئيلة إذا قيست بعدد ساكنة المغرب وبعدد المحظوظين بنيل حقهم من التعليم. وهذا يدل على أن الاستفادة من الثقافة العصرية داخل الحرم الجامعي ما تزال حكرا على القلة القليلة من أفراد الشعب.
إذن، والحالة هذه، بالفعل يجب خلق جامعة شعبية!. إنما بأية طريقة؟.
هنا يكمن الإشكال الحقيقي . ومن هنا، في الآن نفسه، انطلق الجواب المضلل!.
إن جامعة شعبية فوق الزمان و المكان، لا وجود لها إلا في مخيلة واضعيها.
وهذا يعني أن هناك تحضيرا لجامعة أخرى ولشعب آخر في كوكب آخر، اللهم إلا إذا كان يفهم من «الجامعة الشعبية» ضرورة تقريب الجامعة بشكلها التقليدي المعروف من طبقات الشعب الدنيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا أيضا: لماذا لم يعكس رافعو ذلك الشعار الآية، ويدعون إلى وجوب رفع الطبقات الشعبية إلى مستوى الجامعة. أي تحفيزهم ماديا وأدبيا على الالتحاق بها زرافات ووحدانا؟. وقبل ذلك، لماذا لم يرفعوا، بالأحرى شعار: «المدرسة الابتدائية الشعبية»؟.
ألا تؤكد التقارير فرار الألوف من أبناء الشعب من هذه المؤسسات كل سنة لأسباب متعددة؟. أليس المهم في الظرف الراهن هو التركيز على الحيلولة بين هؤلاء وبين الشوارع وصحاري الضياع؟. ثم، أليس الأهم هو دعم الجهود المبذولة في مجال محو الأمية الضاربة أطنابها في عمق الشعب؟. لقد كان أولى برافعي شعار الجامعة الشعبية أن يرفعوا شعارا آخر من قبيل: « لنجعل العناية بالأسلاك التعليمية التي تمهد للأطوار الجامعية مسيرتنا الخضراء الدائمة!». أو« لنجعل التعليم خبزنا ..هواءنا ..وماء».
والأكثر أهمية ليس رفع الشعارات، فالواقع المغربي قد ضاق بها، وإنما تطبيقها على الأرض!. هذا من جهة. من جهة ثانية، لنفترض جدلا قيام مثل هذه الجامعة- الوهمية- لكن السؤال المطروح هو: إذا كان حال الجامعة العصرية – غير الشعبية من منظور أصحاب الشعار- على ما نراه من زراية فكيف يا ترى سيكون حال الجامعة الشعبية؟.
حقيقة إن خطاب « الجامعة الشعبية» غريب الأطوار. ولا يمكن أن تفهم أبعاده إلا إذا استحضرنا مجموعة من الحقائق:
أولها – إنه خطاب انتهازي: فلا أحد يجادل في كون الجامعة المغربية تمر في أيامنا هذه بظروف عصيبة. منها ما هو ذاتي يتعلق بأوضاع أطرها وهياكلها الداخلية. ومنها ما هو موضوعي يتعلق بالآفاق المستقبلية لتوجهاتها وعلاقاتها بالمتغيرات المحلية والدولية.
وكل هذا في مجمله – وبرغم كل شيء – يظل مخاضا مرحليا نتمنى أن تجتازه بسلام وأن يكون المولود القادم جامعة في مستوى الطموحات والتطلعات، منفتحة على حاضرها وواقعها، ومؤمنة مستقبلا زاهر لأبنائها. ولا شك أنها كانت كذلك في الماضي القريب!.
لقد كانت مطمح الغالبية العظمى من أبناء الشعب. وبالمناسبة، فهم الذين يديرون حاليا أجهزة الدولة بكفاءة عالية، وهم الذين ساهموا ولا يزالون يساهمون في بناء مرافق الدولة المغربية الحديثة. لقد كانت الجامعة معقلا للتنوير؛ أي مجالا للإطلاع على مختلف التيارات الفكرية بمختلف مشاربها ومدارسها، وكانت فضاء للحريات حتى في أزمنة الرصاص؛ إذ باتت متنفسا لكل المكبوتين السياسيين والإيديولوجيين المضطهدين.
وكان أجمل حلم بالنسبة للحاصل على شهادة الباكالوريا هو أن يلج فضاء هذا الفردوس الجامعي، ليس لما يقدمه من إغراءات مادية – فهي منعدمة وهزيلة بالقياس إلى مختلف المدارس العليا الأخرى أو أسلاك الإدارات الأخرى- وإنما لما يقدمه من إغراءات روحية تتفوق على معادلها المادي بكثير. وأشهد أن من الأجيال السابقة من أقسم بينه وبين نفسه ألا يجتاز أية مباراة يمكنها أن تبعده عن هذا الحلم؛ الحلم بحمل اسم طالب جامعي!.
كل ذلك قامت به هذه المؤسسة العريقة من خلال عرق و تضحيات أطرها. لكن بدلا من أن تكرم بما يليق بها من تكريم صارت تتعرض لصنوف من الإذلال من قبل أعداء المعرفة والعلم. وصارت- مثلما هي حال التعليم عموما – مرمى لسهام السخرية من قبل جهات لا ترى أن من مصلحتها أن يبنى هذا البلد على أسس المعرفة والعلم؛ لأن من شأن ذلك أن يشكل خطرا على مصالحها. وتتمنى في سريرتها أن يظل أبناؤه قطعانا من الغنم والبقر؛ يهيمون خارج التاريخ، يعيشون على الجهل والخرافة، ومبلغ علمهم وطموحهم، كأس وحشيش وامرأة.
في هذا السياق العام يصب الخطاب المدعو «الجامعة الشعبية». لقد حاول أن يستغل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الجامعة المغربية، وهي على كل حال ظروف انتقالية، ليحاول احتلال مكانها في نفوس الشعب المغربي. وعوضا أن يوجه أصحابه عنايتهم إلى هذه القلعة العظيمة التقليدية والعمل على صيانتها من أخطار الزمن، ومحاولة دعمها بكل الوسائل المادية والمعنوية، لتستطيع تجاوز عثراتها ومواصلة أداء وظيفتها التنويرية، نراه يطعنها من خلف.
ثانيها: محاولته صرف أنظار الشعب عن القطاع التعليمي العام – والجامعة أحد روافده الأساسية- وتوجيهه نحو القطاع الخاص. ولسان حاله يقول للعامة: يا عامة الشعب! لم يعد هناك أمل في الحصول على مكانة تحت الشمس ما دمتم تتوجهون إلى مثل هذه المؤسسات. إن الجامعة فضاء للتسلية وتزجية الوقت. ومجرد محطة ممكن للطالب أن يقيم بها لبضع سنوات، قد تطول أو تقصر لا يهم، في انتظار فرص الالتحاق بقطاعات أخرى محفوفة بأمل مزعوم.
ثالثها: إن هذا الخطاب مشبوه وديماغوجي. خطاب لا يهدف سوى إلى الاستمرار في زرع اليأس في نفوس هذا الشعب عبر تحقير رموزه الثقافية، وتبخيس مكانة مؤسساته التنويرية النبيلة. فلا شريف في هذا البلد يمكن أن يسمح لمجموعة من الأثرياء الجهلة أن يأتوا بين عشية وضحاها على صرح عظيم في حجم الجامعة الغربية ويهدموا كل ما بناه شرفاء هذا البلد.
رابعها – خطاب يوحي لعامة الشعب بأن الجامعة المغربية بدون استثناء وضعت للخاصة. لغير أبناء الشعب. حتى يصرف أنظارهم عما يقوم به توجه ما من محاولات تمييزية فعلية داخل مفهوم الجامعة المغربية، حيث يتم الترويج داخل المجتمع لشائعات مضللة مفادها أن هناك نموذجا جامعيا آخذ في الظهور، هو الذي سينقذ أبناء الشعب من الضلال وغول البطالة. وما عليهم إلا أن يعدوا أنفسهم لقبوله في المستقبل القريب. قد يكون على شاكلة جامعة الأخوين، وقد يكون مختلفا عنها ولكن في جميع الأحوال لن يدخله ابن الشعب مستقبلا إلا بتذكرة مرتفعة الثمن أو فاتورة باهظة التكاليف.
خامسا- إنه خطاب إصلاحي مخادع. يحاول أن يستغل القلق الذي أضحى يسكن نفوس الغيورين على «الجامعة المغربية الشعبية الحقيقية» التي نراها ببناياتها وأطرها وأبحثها في العديد من المدن المغربية- وليست صورة ميتافيزيقية كما هي حال تلك الجامعة الشعبية(الشعبوية) المتسترة خلف الشعار – وكل ذلك من أجل أن يختلس من أياديهم مبادرة الإصلاح الحقيقي.
سادسا – خطاب مخادع يتجاهل حقيقة أساسية وهي أن تجنيد الطاقات من أجل القضاء على الجهل في مجتمعنا لا يكون عبر قرع الطبول والنفخ في المزامير وإنما يتم عبر الإيمان بأسبقية المصلحة العامة على المصلحة الخاصة لا أقل ولا أكثر. وكل ما في الأمر هو أن الدخول إلى الإصلاح الحقيقي يجب أن يتم من خلال الأبواب المشروعة. وفي طليعتها باب الإرادة الحسنة!.