بخصوص القاسم الانتخابي
د. فتحي خالد / كرونو نيوز
بوسع كلا الفريقين من معارضين للقاسم الانتخابي على أساس المسجلين، أو مناصرين له، أن يواصلوا الدفع بحجج دامغة على صواب أطروحتهم .
الأولون سيقولون إنهم ينافحون عن فضيلة الديمقراطية. ولذلك فهم ينددون بهذا القاسم لأنه يرونه يبددها بتفريطه في مبدإ التنافس الانتخابي.
بينما سيقول من في الضفة الأخرى، أنهم يدافعون عن التعددية الحزبية والسياسية، التي هي جوهر ولب الديمقراطية، و قد يتحمسون فيضيفون بأن الديمقراطية إنما هي بمقاصدها لا بطقوسها، فيحذرون من أن الاستمرار في تطبيق القاسم القديم الذي يعتمد الأصوات الصحيحة أو عدد المصوتين ، سيؤدي إلى ما يشبه حكم الحزب الواحد. أي إلى شمولية مستترة تتقنع بالديمقراطية.
الطرح الأول أكثر وجاهة من الناحيتين القانونية والتقنية، لكن الطرح الثاني بالنسبة لدعاته وجيه سياسيا و أنفذ بصيرة و هو بالتالي أفيد لمستقبل البلاد ، مادامت تنطبق عليه القاعدة العزيزة على الإسلاميين أنفسهم، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والواجب اليوم عند طيف واسع من النخبة السياسية المغربية هو فعل كل شيء ممكن ديمقراطيا لأجل عدم السقوط غدا في الديكتاتورية الحزبية التي قد تأتي على سنام الديمقراطية.
بغض النظر عمن هو المصيب من المخطئ، ودون الدخول في مناقشات بيزنطية نظرية سنجدها بالتأكيد مدونة بكراسات القانون الدستوري حول أنماط الاقتراع في المنظومات الانتخابية والقوانين المقارنة، الملح الآن أن نطرح الأسئلة الآتية؟؟
لماذا اضطر جزء كبير من الطبقة السياسية لوضع قاسم انتخابي على هذا الأساس الجديد؟ لماذا تتكتل كل الأحزاب في مواجهة الحزب الإسلامي؟ ولماذا وقعنا في هذه الأزمة ؟؟ وهل نحن فعلا في أزمة، أم أن الأحزاب بصدد اتخاذ تدابير احترازية لكي لا نقع في أزمة أكبر منها صارت نذرها تلوح في الأفق إن لم يتم اليوم توقيها ديمقراطيا وعبر آلية التصويت بالبرلمان؟؟
لنلاحظ أولا أن الحزب الذي وقع التكتل ضده ينتمي لتيار الاسلام السياسي، ولنستمر في توصيفه هكذا رغم انه قد غير كثيرا من جلده، واستحال لحزب عضود يطبق على المصالح بالنواجذ والديمقراطية…ولنسجل ثانيا أنه حزب حدث أن وصل لسدة الحكم كإخوته على ظهر الربيع العربي على غرار ما وقع في جميع الدول العربية التي مرت بهذه التجربة.
وهي تلك التجارب التى منيت جميعها بالفشل الذريع لتضافر عوامل ذاتية و خارجية، ولكن على الخصوص لغياب مشاريع وبرامج واضحة ومحكمة لدى الإسلاميين، حتى أن هاته الأحزاب الإسلامية عادت تحجم الواحد بعد الآخر عن تصدر المشهد السياسي إما جبرا أو طواعية.
في تونس مثلا لايترأس حزب النهضة الحكومة، لكنه مسؤول عن اغراق البلاد في بحر من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حيث تقترب البلاد من التحول إلى بلاد فاشلة سيتحسر معها الناس على أيام بنعلي على ديكتاتوريتها واستبدادها.
وفي مصر رأينا كيف انتهت تجربة الإخوان المسلمين إلى مأساة وإلى مايشبه النكبة، بعد أن أدوا عن شجاعة أو تسرع وتهور في استلام الحكم ضريبة الربيع العربي أو أدى هو ضريبة استحواذهم عليه. وكذلك قد كان الأمر في السودان وليبيا.
دائما يبدأ حكم الإسلاميين بآمال كبيرة بعرض الجبال ترسيها شعارات استعادة الهوية و تحقيق الحرية والكرامة ، وتنتهي بخبيبات أعرض منها تدفع في النهاية بشكل أو بآخر إلى تنحيتهم من الحكم.
ذلك أنه بقدر تجييشك للناس وتحريكك لعاطفتهم لأجل الحشد، بقدر حنقهم عليك حين يقومون ضدك بعد أن يستعيدوا الوعي، ويستوثقوا أنهم كانوا ضحية أضغاث برامج ووعود براقة خادعة مبلغها من النجاعة الفصاحة والبلاغة ولغة الضاد لا غير.
فيستحيل التجييش الذي قد كان لأجل الانتقال من الدعوة الى صلب الدولة الى تجييش في الاتجاه المعاكس يجعلهم يتداولون الأيام من جديد مع غيرهم من الناس المسلمين في حالتنا كما ورد في القرآن الكريم.
تنحية الإسلاميين تم بسينياروهات مختلفة وبأساليب خشنة وناعمة ، بعد أن حصل إجماع على هزالة حصادهم منقطع النظير من سنوات حكمهم العجاف. ومع ذلك في المغرب ظل الاسلاميون استثناء. لأنهم من جهة يختلفون كثيرا عن النسخة البرية الأصلية للاسلام السياسي في المشرق.
وقد كان هذا من حظنا جميعا كمغاربة .ولأن في المغرب توجد بالخصوص ملكية ديمقراطية تنفيذية جنبت هذه التجربة الإسلامية الجلوس قبالة فوهة مدفع الغضب الشعبي.
فدائما هناك شعور عميق في المغرب بأن الشرعية هي لنظام ملكي عابر للتاريخ .حيث لم يحس الشعب المغربي كما في مصر والسودان والبلدان العربية الأخرى بوطأة الحكم الإسلامي. لأن هناك دائما فسحة وإمكانية وأمل للتغيير بطرق سلمية وديمقراطية.
الإسلاميون المغاربة رغم أنهم ناهضوا الربيع العربي لأسباب مفهومة ومنطقية وربما لأسباب وطنية أيضا ، إلا أنهم يتبعون موقفهم هذا بالمن وحب الكرسي حبا جما، .بل و يتخذون الربيع فزاعة لضمان استمرارهم في التنعم بغنائم السلطة ولذلك هم يخذلون الشعب في المحطات الحاسمة بل ويمررون قرارات قاسية يجهزون فيها على المكتسبات بدم بارد.
وقد يبالغون أحيانا كثيرة في ذلك لإظهار حسن نواياهم للسلطة تقنية وطمعا. لكن الغريب أن هذه المرونة البالغة التي يتحلون بها كلما تعلق الأمر بقضايا تهم المواطنين أو تتعلق بمبادئهم و مرجعيتهم نفسها، سرعان ما تضمحل وتغيب لماترتبط بمقاعد أو مناصب أو أموال يصيبونها من إعمال السياسة في الدين.
لقد تحولوا الآن وديمقراطيا إلى مايشبه طبقة اوليغارشية .حيث صادروا واقعيا كل إمكانية للتناوب أو التداول على السلطة، بعد أن صار استمرارهم فيها لا علاقة له بحصيلتهم الحكومية .فسواء كانت إيجابية او سلبية ،لهم ديناميكيتهم الخاصة التي تقوم على استغلال الدين في السياسة ستبوأهم الحكم.
وهذه الاوليغارشية إذا ما ترسخت ، فستؤدي الى ثيوقراطية في ثوب حزبي .مما ينطوي لامحالة على مخاطر كثيرة .لقد شنفت آذاننا دائما بأنهم مستعدون للتضحية من أجل الوطن .وبأن الزهد مذهبهم في الحياة والسياسة ، لكن اتضح بمرور التنازلات أن التضحية في مفهومهم هي التضحية بالمبدأ ونحر حقوق الشعب لا التضحية بالمكاسب المادية و الترفيه عن زخرف الدنيا الذاوي الذي إنما قد اصطادوه بصنارة الدين الذي ننخدع لمن يخدعنا به كما ورد في الأثر.
ليت هذه الحمية وحدها التي تملكتهم في الدفاع عن القاسم الانتخابي الضامن للامتيازات و للأرصدة والسيارات الفارهة ومتاع الدنيا الغرور قد قسموها على عشر سنوات من الولاية الحكومية والبرلمانية لكانت قد كفت لحماية حقوق الشعب المغربي وغيرت حياته نحو النماء والازدهار .ولكن من كانت حميته للشعب فحميته للشعب، ومن كانت حميته لمنصب يصيبه أو مال يغتني فحميته لما حكيت لأجله.
ولقد رأينا بالفعل كيف أنهم يبدعون في الاجتهاد ويتأولون في النصوص كلما تطلب الأمر منهم أن يحدثوا في الدين أو يتعلمنوا فيه، حتى إننا رأيناهم يحملون الدين ما لايحتمل ، لا ،بل و يبيعونه في سوق السياسة الرخيص بالتقسيط المريح أو المربح على أدق تعبير.
ولكنهم الآن وقد اعتقدوا في القاسم القديم خلاصهم، صاروا يفسرون الديمقراطية تفسيرا حرفيا لا يتأولون ولايتحذلقون لكأنما الديمقراطية صارت هي الدين حقا.
البارحة كانت الغنيمة في الدين فتحصنوا به ، واليوم انتقلت هذه الغنيمة الى الديمقراطية فتحصنوا بها . كأنه حيثما المكسب حيثما هم . ولذلك ها نحن نرى الآن كيف أن حاسة الاجتهاد هذه قد تعطلت ونسخت إلى استبسال وشراسة في الدفاع عن المواقع المكتسبة.
المؤكد أن الإسلاميين المغاربة يعرفون جيدا في قرارة أنفسهم أن النظام الديمقراطي المغربي استوعبهم ، لكنهم عوض أن يحفظوه هم في طريقهم إلى احتواء هذا النظام الديمقراطي وتحييد اللعبة الديمقراطية.
الكل يتذكر كيف أنهم كانوا أول من تحدث عن التقليص الذاتي للترشيحات، بل ومنهم من انتقد مسارعتهم إلى تقلد الحكم بعد الثورات العربية، وحتى أن منهم من تأسف لعدم وجود أنداد لهم في الميدان يجنبونهم غواية الاكتساح .ولذلك هم من دفعوا خصومهم إلى مثل هذه الحالة النفسية التي تجعلهم يعدون لهم ما استطاعوا من عدة وقوانين انتخابية.
أن ما وقع لا يعدو كونه تحقيق رغبة دفينة لهم كثيرا ما لوحوا بها. ولذلك ليس مستبعدا أن كل ما يقومون به مجرد دور مسرحي ينسحبون فيه من المشهد .دور يتمنعون فيه وهم الراغبون بعد أن لم يعد في جعبتهم مايقدمونه للشعب المغربي.
خلاصة القول عسى أن يكره الإسلاميون القاسم الانتخابي الجديد وهو خير لهم .