مقالات الرأي

مسجد باريس الكبير… حين يسألنا التاريخ من بناه

الدكتور عبد الحي السملالي.

في قلب الحي الخامس بباريس، حيث تتقاطع الحضارات وتتشابك الهويات، يقف مسجد باريس الكبير شامخًا، لا كمجرد معلم ديني، بل كرمز لتاريخ طويل من التضحيات، والروابط العميقة بين فرنسا والعالم الإسلامي. لكن حين نُصغي إلى جدرانه، ونفتح أرشيف الصحافة، ونقرأ في عدد الوطن المغربية الصادر في 15 يناير 1999، نجد عنوانًا لافتًا يقول:

“مسجد باريس بناه السلطان مولاي يوسف واستحوذت عليه الجزائر.”

عنوان لا يُدين، لكنه يُذكّر.
فهل يُعقل أن يُدار مسجد بُني برعاية مغربية، ودُشّن من طرف سلطان المغرب، من قبل جهة لم تكن جزءًا من لحظة التأسيس؟
هل يُمكن فصل التسيير الديني عن الحسابات السياسية، حين يصبح المنبر أداة نفوذ أكثر منه فضاءً للعبادة؟

حين كانت فرنسا تُشرّع للإسلام.

في عددها الأخير، افتتحت صحيفة ليبراسيون صفحتها الأولى بعنوان استفزازي:
“شمس الدين حفيظ، السفير السري للجزائر في باريس”
في إشارة واضحة إلى الدور غير الرسمي الذي يلعبه عميد مسجد باريس في هندسة العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بعيدًا عن القنوات الدبلوماسية التقليدية.

في عام 1920، أصدرت الجمهورية الفرنسية قانونًا استثنائيًا يمنح تمويلًا لبناء معهد إسلامي ومسجد في باريس، رغم قانون 1905 الذي يفصل الدين عن الدولة.
كان ذلك اعترافًا رسميًا بالإسلام، وتكريمًا للجنود المسلمين الذين قاتلوا في الحرب العالمية الأولى.
لكن التنفيذ لم يكن فرنسيًا صرفًا، بل مغربيًا في العمق:

• السلطان مولاي يوسف وضع حجر الأساس، ودشّن المسجد بنفسه عام 1926.
• الزخارف والزليج من فاس، والعمال من المغرب، والخطبة الأولى ألقاها العالم المغربي أحمد سكيرج.
• حتى التمويل، كما تشير الصحيفة، كان مغربيًا جزئيًا، عبر جمعية الحبوس.

من التأسيس إلى التسيير… أين الجالية المغربية؟

في السنوات الأخيرة، أثارت إدارة المسجد، بقيادة شمس الدين حفيظ، جدلًا واسعًا داخل الجالية المسلمة. تصريحات سياسية، مواقف مثيرة، وتداخل واضح بين الدين والدبلوماسية.
فهل يُعقل أن يُدار مسجد بهذا الثقل التاريخي والروحي، من طرف جهة لا تمت لتأسيسه بصلة؟
هل يُمكن أن يُستبعد المغاربة، الذين بنوا المسجد، من تمثيله اليوم؟

وفي عدد الوطن الصادر في 14 يناير 1998، نقرأ تصريحًا لرئيس الفدرالية العامة لمسلمي فرنسا يقول فيه:

“كسبنا العديد من القضايا أمام المحاكم الفرنسية، أهمها قضية الحجاب.”

تصريح يُثبت أن الجالية المغربية لم تكن فقط حاضرة تاريخيًا، بل كانت فاعلة قانونيًا واجتماعيًا، تدافع عن حقوق المسلمين في فرنسا.
فهل يُمكن تجاهل هذا الدور حين يُعاد تشكيل هوية المسجد؟

سؤال الملكية… سؤال الهوية

لسنا أمام نزاع عقاري، بل أمام سؤال هوية:
من يحق له أن يُمثّل هذا المسجد؟
هل هي الجهة التي دشنته؟ أم الجهة التي تُديره اليوم؟
هل يُقاس التمثيل بالعدد؟ أم بالعمق التاريخي؟ أم بالشرعية الروحية؟

ربما لا نحتاج إلى إجابة مباشرة، بل إلى لحظة تأمل.
لعل التاريخ، حين يُسأل، يُجيب بما يكفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock