السياسة هي الإيثار والإنسانية.

د. المصطفى الشادلي.
السياسة، في جوهرها السامي، «هي فن إدارة الناس وخدمة مصالحهم». وحينما يُحرًّف مفهومها ويتحول إلى فن خداع الناس وخدمة المصالح الشخصية والعائلية تصير شرًّا وإثما يستوجب من السياسي التكفير عنه بعدَ أو أثناء ممارسته لسلطته السياسية، وتقديم الاعتذار- إذا صحا ضميره الميت وسمح له بذلك- للشعب.
وحينما يجد المسؤول السياسي نفسه متوَرطا، عن قصد أو غير قصد، في مستنقع الجريمة السياسية كيفما كان شكلها ودرجتها، عليه أن يعتزل السياسة ويخرج من أبوابها الواسعة.
ولا زلنا نشاهد في عالم السياسة المعاصر، وفي الغرب خاصة، رموزا نبيلة، سياسيين يدفعهم الإحساس بالذنب إلى الاعتذار لشعوبهم عن أخطاء سياسية اقترفوها، وعن زلة لسان صدرت عنهم سهوا وجرحت شعور طبقة أو طبقات اجتماعية كافة، وعن سرقة أموال مست جيوب مواطنيهم. بل لا يكتفون بتقديم الاعتذار الشفوي عبر وسائل الإعلام السمعية والمرئية وإنما يسارعون إلى تقديم استقالاتهم للحكام وبالتالي الانسحاب بشرف من مواقع السلطة.
لكن مع الأسف، في بلداننا العربية، تأبى الغالبية الساحقة من السياسيين، غير الشرفاء، التكفير عن الذنب السياسي وحتى الاعتراف به ناهيك عن أن يقدموا لبني وطنهم اعتذارا يحفظ لهم ماء وجوههم. وهم معذورون لأن لسان حالهم يردد مع نزار قباني: «كلما فكرتُ أن أعتزل السلطة ينهاني ضميري».
لم تكن السياسة في البدء مرتبطة بالمال. وإنما كانت في جوهرها تعني خدمة الأخرين، مراعاة حقوقهم وتسيير شؤونهم وحمايتهم..وفي الأمثال الراسبة في ذاكرتنا الجمعية ما يؤكد هذه الحقيقة: ألا نردد المثل العربي: خادم القوم سيدهم؟.
إن خدمة الناس وتفضيل مصلحتهم على كل مصلحة شخصية، والتفاني في إسعادهم هو ما يجعل من السياسي سيدا محبوبا، ويجعله في نهاية المطاف إنسانا.
ولا شك أن الطمع والأنانية وتفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة جزء من الطبيعة البشرية. لقد كانت هذه الخصال غير الحميدة قاسما مشتركا بين الإنسان والحيوان منذ أقدم العصور. ولا زلنا نراها مجسدة في سلوك الحيوانات في المحميات والغابات. نرى ذلك في سلوك الضبع الذي يفترس جاموسا ويبقر بطنه ويتلذذ بنهش أحشائه وهو لا يزال حيا. ولا يكلف نفسه حتى قتله قتلا رحيما قبل التمثيل بجثته. كل ذلك من أجل أن يبقى هو وعشيرته من الضباع. والموت والفناء لباقي الكائنات..
ولا زلنا نرى تلك اللبؤة التي تقتل جاموسة أمام صغارها دون مراعاة لمشاعرهم. وكل ما يهمها هو إطعام صغارها ليكبروا ويسعدوا بالحياة. ولسان حالها يردد: «أنا وصغاري أولا وأخيرا، والفناء بعد ذلك للكائنات الأخرى ولصغارها».
إن شعار حيوان الغابة في العصور البائدة هو «أنا» و«أبنائي» والموت للآخرين. بيد أن عصورا من الكفاح الديموقراطي مكنت الإنسانية من الانفصال عن عشيرة الحيوان، والانفلات من عصر التوحش والظلمات، ومغادرة «المرحلة الحيوانية»، ودخول عهد جديد اسمه «المرحلة الإنسانية» التي صار فيها الإنسان كائنا اجتماعيا وحضاريا يعيش في المجتمع.
إن استقرار الإنسان في القرية والمدينة وتموقعه ضمن المجموعة البشرية المنظمة والمتشعبة العلاقات – سواء في شكل قبيلة أو مجتمع أو شعب – معناه الانفصال عن عالم الغابة وما يتصل به من توحش وأنانية.
لقد اضطر الوضع الاجتماعي الإنسان إلى التنازل عن أنانيته الفطرية بحكم عيشه في مجتمع كبير منظم يتطلب من أفراده أن يتعاونوا، وأن يضحوا من أجل الأخرين، وأن يأخذوا ويعطوا، ويتسامحوا ويتنازلوا حتى عن حقوقهم الشرعية من أجل إسعاد الغير. هذه هي القيم السامية التي ميزت المجتمع الإنساني عن المجتمع الحيواني، وجعلت الإنسان يتحرر من نزعة الأنانية و يسمو على جنس الحيوان ويدشن بالتالي عهدا جديدا اسمه «الإنسانية».
وخلال هذه «المرحلة الإنسانية» سن الإنسان «السياسة» ووضع قوانين – منذ عهد حمو رابي أول ملوك الامبراطورية البابلية وإلى يومنا هذا- باعتبارها وسيلة لإدارة شؤون الأفراد والمجتمعات، وباعتبارها آلية لفرض العدل في مجال اقتسام الغنائم والخيرات والعيش المشترك، وإعطاء لكل ذي حقٍّ حقه حسب المجهود الذي يبذله وحسب الكفاءة أو الشهادة التي يمتلكها، وحسب كل قطرة عرق يهرقها في خدمة الآخرين.
كل ذلك تم بعدما كان الإنسان الحيواني سابقا وحشا أنانيا يسلب ويقطع الطرق ويسطو على القوافل التجارية ويمارس القرصنة في البحار ويسرق بكل الوسائل من أجل أن يخدم مصلحته الشخصية ومصلحة أبنائه وعشيرته. ولا تزال هذه الممارسات الحيوانية مجسدة في سلوك المجرمين الذين يقتلون ويسرقون ضحاياهم بدون شفقة ورحمة فقط لكي يحافظوا على بقائهم وبقاء سلالاتهم.
السياسة ليست غطاء عائليا ضيقا وإنما هي غطاء شعبي واسع يتسع للجميع، ينضوي تحته الوطن والشعب. وليس من حق أيٍّ كان أن يستأثر به لكي يحمي به نفسه وأبناءه واقاربه ويترك بقية الشعب عرضة للفحات الحَرّ ولسعات البرد والضياع بحجة أنه أذكى الناس وأنه محمي من جهات ما، أو أنه يمتلك شبكة معارف وأرقام هواتف محترمة يمكنه الاستنجاد بها متى استدعى الأمر ذلك. أو بحجة أنه يمتلك بطاقة بيضاء وأنه بعد هذا وذاك أذكى الناس!.
في عالم اليوم كل شيء مكشوف. وإذا كان البعض في عصر «مكيافيلي» استغل السياسة لأغراض دنيئة في الظلام بعيدا عن الأضواء الإعلامية وعن سلطة الإعلام تحت شعار «الغاية تبرر الوسيلة»، فإنه من المستحيل في عالم اليوم المكشوف أن يكون للأخلاق الميكيافيلية وجود. ومن التعذر أن يمارس بعض السياسيين الجدد أفعالهم السياسوية الدنيئة بعيدا عن أنظار الشعب وفي منأى من سلط الإعلام.
اليوم صار كل شيء، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، شفافا بما في ذلك جدران مخادع النوم. فلا يمكن للسياسي الأذكى ان يرتكب الخطيئة في الظل. أو أن يقوم بتغطية الشمس بغربال كما يقال.
وربما قال قائل: لكن نماذج هؤلاء السياسيين – وهم في وطننا العربي الكبير كثر- وقحون يمتازون بصلافة خارقة للعادة، ويملكون فائض جرأة.. ولا يهمهم أن تصير شخصياتهم مقرونة بالفضائح في الوعي الاجتماعي. ولا يأبهون بهمزات رواد المقاهي، ولا يعيرون اهتماما للمزات وسخرية رواد الشبكات العنكبوتية!. ولا تحرك فيهم لذعات الصحافة الرسمية ساكنا، لأنهم مثل الجوارح الجائعة الممسكة بالفريسة، والتي يصرفها انشغالها بالنهش والتلذذ بالدم عن الإحساس بمحيطها والشعور حتى بعضات حيوانات أخرى لها..!!
ورب مجيب يرد بألم: هذا صحيح ولا داعي للاستغراب. هؤلاء من طينة أخرى. لم يذوقوا طعم الفقر والحرمان. أغلبهم ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. اغتنوا بطرق غير شرعية وأفقدهم المال الإحساس بكيانهم وبالعالم المحيط بهم ففقدوا كل شيء. فقدوا المروءة. فقدوا الإحساس بالمسؤولية. فقدوا الإحساس بالانتماء إلى الوطن. وفقدوا الإحساس بالألم الذي يشعر به الإنسان العادي الذي لا يجد في جيبه درهما لشراء رغيف، ولا ورقة مالية لتسديد فاتورة ماء وكهرباء، ولا بيتا يحميه من زمهرير الشتاء وقيظ الصيف، ولا يرى أملا مشعا في المستقبل.
فكيف يريد منهم البعض أن يكونوا إنسانيين؟.
هؤلاء هم الخاسرون الذين فقدوا سمعتهم وحب الشعب لهم. لم يتخلصوا بعد من طورهم الحيواني ولذلك لا تزال الأنانية والمصلحة الشخصية الضيقة توجههم. فهي الهواء الذي يتنفسونه، والنافذة الوحيدة التي ينظرون من خلالها إلى الحياة. ولذلك لم يدخلوا عالم السياسة ولم يتسابقوا إلى ردهاتها إلا لاعتقادهم بأن السياسة هي عالم المال والأعمال: في قصورها تنسج العلاقات وتخاط الشبكات المصلحية. وفيها يتم الزواج غير الشرعي بالمصالح ويتم التسلق الطبقي بأسهل الطرق. ومن خلالها يمكن في ظرف وجيز- مدة وزارية ما أو عهدة برلمانية – بناء القصور على الشواطئ والاصطبلات وامتلاك الضيعات غير المحدودة في كل المدن وامتلاك عقارات في كل الجهات وحمايتها بالشارة والاسم الوزاري والحزبي.أما الذين يؤثرون على أنفسهم شعوبهم وأوطانهم فسيذكرهم التاريخ بفخر واعتزاز، وسيكتب الخلود أسماءهم في سجله بمداد من ذهب.
•المصطفى الشادلي
(السبت28 يناير2023)