“لتطمئن قلوبكم” كتاب في صيدلية المنزل.
خالد المعيقلي، مركز الأدب العربي،طبعة ثانية 2021 بقلم الروائي السوري: رواد العوام
لاتزال العلاقة المتشابكة بين الإنسان والغيب “الطبق الدسم” للفكر البشري، فلطالما جَهِد هذا الفكر ومازال يجهد ويلهث لتفكيك الحالة الملتبسة لمفاهيم الوجود، ويجيب عن الأسئلة الوجودية المصيرية التي أعيت الإنسان منذ فجر التاريخ.
ولقد غامر العقل البشري بتحليل المفاهيم وفق الوعي المرتبط بالزمان، ولم يستطع إلى لحظة كتابة هذه الأسطر تقديم رؤية متكاملة تحيط الغيب.
لم يعش البشر يوماً في حال من السلام نتيجة التلاعب المتعمد بفلسفة الغيب على مستوى الديانات أو المعتقدات الوثنية، فكان لكل مرحلةٍ وجغرافيا أيديولوجيا خاصة بفك طلاسم ما لا يرى، وكثيراً ما تكلّف العالم أنهاراً من الدماء لتثبيت أو إزالة هذه الأيدولوجيا من الوعي البشري.
في الفكر الحديث ظهرت تيارات فكرية محترمة اعتمدت الفكر التوافقي في التعامل مع الدين، حيث دعت هذه التيارات للتعامل مع الدين كجزء طبيعي من الحياة ينظم العلاقة الجدلية بين الدين والحياة.
وداخل الدين ذاته ظهرت أقطاب وقوى وأيديولوجيات تأخذ الدين باتجاهات مختلفة وأحياناً تكون اتجاهات متضاربة ومتعاكسة. وليس بعيداً فقد ظهرت في عالمنا الإسلامي هذه التيارات التي أسست لمذاهب ومعتقدات وأيديولوجيات بناء على توظيف السياسة لها أدت لصراعات دموية عبر التاريخ.
في القرن الحالي أدى الصراع السياسي بين الدول العالمية لتوظيف التيارات الدينية في السيطرة على الوعي وإشعال حروب انطلاقاً من الاختلاف بين المذاهب والمعتقدات، وعليه فقد أصبح الوعي المضاد الذي ينظر إلى الدين كعلاقةٍ خاصة بل شديدة الخصوصية بين المخلوق والخالق ضرورة ملحة للمحافظة على المجتمعات التي تعيش بتنوعٍ عرقي، ومذهبي، وديني، وقومي.
قرأتُ عدة كتبٍ حول التسامح الديني وكانت تدعو بمجملها إلى وضع الدين بخانة الأمر الشخصي والعلاقة الخاصة بين الإله والإنسان، وإزالة آثار الركام الذي خلفته الأيديولوجيات العنيفة والتي دمرت الإنسان والدول والحضارات. أما كتاب لتطمئن قلوبكم للكاتب السعودي خالد المعيقل فهو لا يغرد بعيداً عن الأعمال المحترمة التي دعت للتسامح إنما ينفرد بطرح راقٍ مفاده أن الله الذي تحبه ويحبك هو مصدرك ومرجعيتك الروحية الوحيدة وفق علاقة خاصةٍ جداً لا تحتمل شراكة لطرف ثالث، لا شيخاً ولا إماماً ولا فتوى.
تأخذك شجاعة المعيقل منذ الكلمات الأولى، حيث يطرح منطقاً مباشراً دون مواربة وتكاد تكون الكلمات الأولى من الكتاب هي جوهر أفكار المعيقل بقوله: (الله والحياة ليسا خيارين منفصلين، كن مع الله تكن مع الحياة).
(لتطمئن قلوبكم) هو دعوة صريحةٌ بأسلوبٍ شيقٍ بليغٍ ولطيف إلى إشراع قلوبنا وتهيئة أفئدتنا لاستقبال هدايا وعطايا الإله العظيم. وهو إبحارٌ شجاع في بحرٍ من الموضوعات الدينية الدنيوية القيمة، بلغةٍ غنيةٍ ومادة معرفية محترمة.
يوزع الكاتب موضوع الكتاب في سبع مجموعاتٍ، لكل مجموعة نغمتها الخاصة ورسالتها. تتآلف جميعها لتؤدي لحناً واحداً ومنسجماً يعود على القراء بالمتعة، والفائدة، والسلام والهدوء.
وكقائد أوركسترا محترف يعرف المعيقل كيف وأين ومتى يعزف، ويعرف بدقةٍ إلى من يوجه كلماته فيجنح إلى استخدام أسلوبٍ عاطفي إنشائي لتمرير المادة المعرفية التي يمكن أن تشكل عسر هضمٍ في الأوساط الدينية المتشددة.
يبدأ الكتاب بتوطئةٍ تدعو القارئ إلى استشراف وتحقيق التوازن بين الحياة الدنيا من جهةٍ والله من جهةٍ أخرى. منطلقاً من قاعدة ” لا قوانين سوى ما يمليه العقل بشان العلاقة مع الله”، ولا شكل معلَّباً يمكن أن يناسبك سوى الشكل الذي ينتج عن يقينك بالله على أنه خالقك ليحبك ويعزك وينفعك فالله ليس سادياً ولا يتعامل مع الإنسان بمنطق انتقامي، بل هو الرحمن الرحيم العليم بمكامن ضعفك القريب منك أكثر من ظلك.
ليس الكتاب مقالاً بقدر ما هو رسالةٌ معرفية وفكرية هامة تعبر حقلاً من الألغام لتغير فينا بعضاً من مسلماتنا، وتصحح لنا منظورنا واعتقاداتنا التي ترسخت داخلنا دون وعيٍ أو انتباهٍ منا.
يتناول القسم الأول من الكتاب طرحاً للفهم المتقدم للكاتب حول ماهية الله، وتتعمق في وصف صفاته ومزاياه، من كرمٍ وعطاءٍ غير مشروطٍ، والدعوة إلى إفراده بالعبادة، والشعور بمعيته والتيقن من رحمته وغفرانه، والثقة بتدبيره وحسن تقديره، وكذلك إلى حسن الظن الذي لا يخالطه الشك بالرب وتوكيل الأمر له، وما ينجم عن ذلك من ثمرات نفسية ومعرفية.
يطرح المعيقل أيضاً مفهوماً جدلياً آخر هو الشكل الإيماني فيدعو إلى ضرورة الإيمان بالقلب، الإيمان الداخلي وليس القشور الخارجية. ويوضح وجوب التفريق بين مخافة الله والخوف منه. وكذلك يبين ثمرات الدعاء الذي يلازمه اليقين. كل هذا في نصوصٍ جميلةٍ قريبةٍ من قلب القارئ، مزدانةٍ بأقوال وحوادث مأثورةٍ عن الرسول الكريم محمد(ص) والأنبياء الآخرين.
وبانسيابيةٍ لافتة يدخل الكاتب في المجموعة الثانية، التي تزخر بمعانٍ جدليةٍ، كالتركيز والتشديد على معنى مسار الحياة والذي يتلخص بأفكارنا الخاصة ومنظورنا الشخصي وما يدور في أذهاننا. لنستنتج أن كلَّ ما نعيشه ونواجهه ما هو إلا انعكاسٌ لأفكارنا أحياناً وأوهامنا أحياناً أخرى، وكيفية الوصول إلى التغيرات المرغوبة في شتى نواحي حياتنا.
كما يوجه الكاتب دعوةً إلى التسامح والمحبة والغفران، وتأثير هذا على مجريات حياتنا وتحقيقنا للسعادة. ويؤكد على أهمية البساطة والعفوية سبيلاً للوصول إلى الهدوء وتذوق الجمال.
أمَّا الجزء الثالث من العمل فيتحدث عن منغصات الحياة الهانئة، والسلبيات الهادمة للوصول للسلام النفسي الداخلي والشعور بالطمأنينة، والطرق الفعالة في التغلب على مشكلات الشعور تلك. ويتعمق في آثار الغضب ووجوب ترويض النفس على كبح جماح هذه المشاعر.
يحثنا الكاتب في أحد الفصول على تذكر كوننا خلفاء الله سبحانه على الأرض، و ما يحتمه علينا من إدراكٍ للروح والقلب وعدم التركيز على الجسد الفاني. كما يعرج تعريجاً لطيفاً على العبادات، وعلى مقاصد الله من تكليف عباده، وتجنب المعنى الخارجي والممارسة الظاهرية لها. فكلّ تكليفٍ من الخالق له مغزاه الذي يتجاوز صورته الظاهرية.
إن إتقان فن الحمد والشكر والامتنان لله، هو ما يجب تعويد النفس عليه، وإظهار النعم التي منّ بها علينا القدير العظيم، هو جزء من رد الجميل لله. وهنا يوضح لنا الكاتب السبيل السهل للوصول إلى النعمة والرزق والدعة والراحة.
العمل نصاً، يدعو معرفياً لنهج منهج صحيح ومحايد للعلاقة بين الله والإنسان بعيدة عن مأسسة الدين والنضح من ينبوع المؤسسة الدينية التي لم تتمكن بشكل مطلق عبر التاريخ البشري من إيجاد علاقة صحية ومتوازنة مع الله، فقضية التخويف والترهيب والتهديد بالعقاب يعطي مفهوم الله بعداً عنيفاً لا يمكن أن يصنع علاقة إيمانية متوازنة بين المخلوق والخالق.
الكتاب مريح ولطيف وتحتار إن كنتَ ستضعه في المكتبة أم في صيدلية المنزل، فمثل هذه الأفكار لا تاريخ صلاحية لها، وساحة الوعي البشري تتسع للطروحات التي تحرك الفكر الراكد.