مقالات الرأي

القضية الوطنية بين المنحى العاطفي والواقعية السياسية

د. المصطفى الشادلي.


بالامس تابعت فيديو قصيرا للصحفي ” الصديق معنينو” باعتباره شاهد عصر ومتتبعا للأحداث عن كثب في الصحراء المغربية خاصة في مرحلة السبعينيات حيث كان الصراع العسكري محتدما بين المغرب و المرتزقة الأجانب…

وما اثار انتباهي هو قوله لمحاوره ما معناه: “لا أظن اننا كنا سنجلس معا في هذا المكان في ظل الاستقرار والطمأنينة لو تمكن الأعداء من السيطرة على الصحراء المغربية” .”لقد رأيت بأم عيني دباباتنا كيف تحولت الى شظايا وجثث جنودنا كيف تحولت إلى أشلاء ..وفي يوم واحد فقط فقدنا ثلاث طائرات…كل هذا بسلاح مرتزقة الجزائر وليبيا وكوبا…وغيرهم”.


من سمع هذا الكلام عليه أن يحب هذا الوطن أكثر من أي وقت مضى ويقف وقفة إجلال تكريما لأرواح شهداء الوطن وللجنود المرابطين على حدود الوطن في ظل قساوة الشتاء وقيظ الصيف…


الخطاب يجب أن يتمحور اليوم حول قضية مفتعلة استنزفت الاقتصاد المغربي على مدى عقود..و المطلوب أن نركز خطاباتنا وجهودنا على ما يهمنا أولا وقبل شيء آخر. و أن نستثمر إمكانياتنا وعلاقاتنا مع “الآخر ” الأمريكي، والغربي عموما، من أجل البحث وبكل الوسائل عن طرق خلاص من كابوس قضية مؤرقة لكل مغربي او مغربية ، ووضع حد لأزمة عمرت أكثر مما يحتمل و بالتالي التخلص منها بأسرع وقت ممكن.

واعتقد ان الدبلوماسية المغربية استطاعت أن تنتقل بقضيتنا الوطنية إلى بر الأمان بعد عقود من النضال والصبر ولعبة” الخرقة الحمراء “التي بواسطتها تمكن المغرب من مداراة” ثور” الأعداء والانتهاء به الى هذا “المازق”الذي حشر فيه في نهاية اللعبة! وهو مأزق لا يحسد عليه بكل تأكيد!


اكبر ضربة تلقاها الأعداء أنهم ظهروا في حلبة الخسران مجردين من كل مكاسب اللهم إلا من أضغاث أحلام وأوهام وشعارات لازالوا يرددونها في طليعتها(نحن مع حق الشعوب في تقرير مصيرها).. طيب فليمكثوا في وهمهم والى الأبد. لا يهم. المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها!

فالمغرب تمكن من حسم الصراع بدم جنوده منذ نهاية عقد الثمانينات. لقد ادى ضريبة انتصاره وليس مستعدا للتخلي عن شبر واحد من ترابه..ولم تزده مباركة أمريكا ولا التقارب مع إسرائيل في الحقيقة شيئا جديدا يذكر لأن مغربية الصحراء تحصيل حاصل. بل الشيء الجديد حقيقة هو ان العالم الحر بدأ يدرك أن مصلحته الحقيقية في أن يتخلى عن اللعب على الحبال والابتزاز والتوقف عن الجري وراء الأوهام ..وعن الكذب لأن حبله قصير.

ولذلك كان على بعض الدول ان تسحب اعترافها بجمهورية الوهم -وهو ما تم- ..وكان على أخرى أن تفتح قنصليات في الصحراء تماشيا مع مصلحتها العليا. وتعترف صراحة بسيادة المغرب على صحرائه .وأمريكا لم تفعل في الحقيقة أكثر من هذا.! وسلوكها لم يتعد في الحقيقة سلوك من يشير إلى معطف صديقه: بالقول : هذا المعطف لك!


وما يتعجب له الملاحظ هو ان الخطاب الإسلامي والقومي يتعالى على جراح وطنه ومصدر مشاكله الحقيقية ويتلذذ بترديد الكلمات الكبيرة ..والشعارات المدغدغة للعواطف والمثيرة للحساسيات. والعجب العجاب أن أصحابه لا يثيرون القضية الوطنية إلا من أجل التركيز على التطبيع. والصهينة.والخيانة… إلخ. اما أن يخصصوا ولو بضع كلمات من خطبهم الطويلة لوضع الإصبع على الجرح المغربي الذي هو قضية الصحراء المغربية فذاك ما لا يمكن أن يحدث!.. اما ان يبلوروا حلولا ونظريات واقعية ملموسة للقضية الوطنية فذلك ما ليس بإمكانهم!.


اعتقد انه آن الأوان أن ننهي مشكلة الصحراء المفتعلة وان نسحب البساط من تحت أقدام الاعداء بكل الطرق. وبعد ذلك لكل حادث حديث.


لقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك ان ما فعله ذوو القربى -النظام الجزائري- في المغرب أفعال تفوق في قبحها ونذالتها ما فعله الصهاينة واشرار العالم. يجب أن نذكر أنهم طردوا عشرات الألوف من المواطنين المغاربة(75الف مغربي ومغربية) في عشية عيد الأضحى ! ولم يرف لهم جفن ، ولم يتحرك فيهم إحساس واحد بأزمة ضمير أوندم . ويتموا آلاف العائلات المغربية على مدى عقدين من الحرب على المغرب.. ودمروا الاقتصاد الوطني بشكل ممنهج عبر افتعال الأزمات ..ولا شك أن آثار كل تلك المآسي قد انعكست على أوضاعنا الاقتصادية ولا يزال البلد خاضعا لتداعياتها السلبية.


وحين يحاول المغرب أن يستعيد سيادته و يضمد جراحه تنطلق الأصوات المكابرة كالزنابر لعرقلة نهضته. ووضع العصا في عجلته..


الا يعلم أولئك ” القومجيون” -الذين يحلو لهم أن يظهروا ، في بعض المواسم، في العباءة القومية، وأن يزينوا أعناقهم بالكوفية الفلسطينية – أن تحرير فلسطين لا يتم بالخطب على المنابر؟ وهل يمكن للأمة العربية والإسلامية أن تحرر فلسطين وأوطانها ممزقة ؟. ألا يجب التركيز على تحرير الأمة العربية من تلك الطغم العسكرية المتحكمة في بعض اقطارها-الجزائر على الخصوص- التي تعمل على تفتيت جسدها من خلال محاولتها خلق الدويلات الوهمية الخادمة لاجنداتها التوسعية – ولأجندات الدول الامريالية- كالجمهورية العربية الصحراوية؟


أليس عمل تلك الطغم العسكرية أخطر على الأمة؟ أو أليس ممزقو الأوطان إخوان الشياطين والصهاينة ؟. ألا يعلمون أن النظام الجزائري من مصلحته أن تظل مشكلة الصحراء قائمة مدى الحياة؟: لأن رموزه، من ناحية أولى، من خلال هذه المشكلة، يحولون انظار الشعب الجزائري الشقيق عن مطالبه المشروعة وطموحه إلى التغيير والعيش الكريم في ظل نظام مدني ديموقراطي؟

ولأنهم، من ناحية ثانية، يريدون أن ينتقموا من المغرب لأنه حسب مزاعمهم، هاجم بلدهم (سنة 1963فيما عرف بحرب الرمال ) وهم ضعاف خرجوا لتوهم من الاستعمار الفرنسي ولذلك يجب أن يردوا له الصاع صاعين، كما يقال، بغرس شوكة دويلة وهمية في خاصرته…تؤلمه وتؤخر نهضته، وتكبله على الدوام…

ولأنهم، من ناحية ثالثة، يتوجسون خيفة من قوة المغرب وتفوقه الاقتصادي والعسكري والسياسي، وإذن يجب إلهاؤه عن طريق الزج به في خوض حرب بالوكالة مع عصابات مخربة من بني جلدته طبعا. مما قد يكسر شوكته ويضعفه وبالتالي يجعله في وضع قد لا يسمح له بمطالبة الجزائر برسم الحدود وفق خريطة قديمة تضم اجزاء كبيرة من أراض يفترض أن الاستعمار الفرنسي انتزعها منه، ظنا منه أن الجزائر ستظل ملحقة فرنسية والى الأبد.وهي الأراضي المعروفة (بالصحراء الشرقية).


اعتقد انه لا يجب تجاهل هذه الحقائق عندما يريد البعض قراءة ما يحدث على الساحة السياسية المغربية من تحولات.


من السهل أن ننتقد ونهدم ولكن من الصعب ان نبني ونقدم البديل. ما هو البديل؟. طيب ما هو البديل؟لا أظن ان الخطاب القومجي-وليس القومي لأنه انبل واشرف- ولا الخطاب الاسلاموي لديه تصورات عملية وسياسية واقعية، وإن كنا لا نشك في صدق عواطفه أحيانا بل ونبلها.

ونحن كذلك لا نختلف عنه، على هذا الصعيد العاطفي، فنحن نحب فلسطين أكثر من بعض أهلها، و أكيد لن نسمح بأن تمس مقدساتها و أن تهدر حقوقها. فقط يجب أن نصرح ، بأعلى صوت، بأن لدينا قضية لا تقل أهمية عن القضية الفلسطينية. و من الخير أن نناصر فلسطين ونحن أمة قوية موحدة لا أن نوهمها بالدفاع عنها ونحن لازلنا نجاهد من أجل فقط استكمال وحدتنا الترابية. فلا يجب أن نتناسى بأن صراعنا من أجل الاستقلال التام و النهائي لم ينته بعد!


في هذا الإطار هناك قولة فرنسية يجب ان نستلهمها في هذا المقام:
.(Agir d ‘abord et rectifier après vaut mieux que rester les bras croisés )
اي علينا أن نبادر بفعل شيء ما أولا ثم نعمل على تصحيح وتقويم ما فعلناه لاحقا ، خير من أن نظل مكتوفي الأيدي، في وضعية انتظار.

ننتظر الذي قد يأتي ولا يأتي.. نردد الشعارات ونرغي ونزبد و نصارع طواحين الهواء، بطريقة دونكيشوتية، ونلوح بقبضاتنا، بشكل هستيري، من على المنابر ..ونعب من خمر الأوهام أكثر مما يتطلبه منا الواقع والممكن.


كل خطوة تقربنا من حل واقعي للقضية الوطنية يجب أن نباركها بكل تأكيد. أما القضية الفلسطينية فهي قضية أمة بأكملها. والمغرب الذي تبناها ، قبل نزاع الصحراء، لا يمكن أن يتخلى عنها حين ينتهي هذا النزاع، لأنه جزء من أمته، وما قدمه للقضية الفلسطينية أكثر بكثير مما قدمه لها أولئك التجار المتاجرون بها في سوق الدعاية والمزايدة البهلوانية.


أكيد أنهم، أي التجار المزايدون، وجدوا في خطوة المغرب، أي إستئناف عمل المكتبين الدبلوماسيين القائمين في كل من المغرب وإسرائيل، فرصة للتخلص من امراضهم التاريخية، واجترار الكثير من العبارات الرنانة التي باتت تملأ الساحة العربية منذ هزيمة 1967، وربما قبل ذلك.

وهي العبارات التي لم تقدم القضية الفلسطينية قيد أنملة، إلى الأمام: فلم تحرر فلسطين..ولم تلق بالصهاينة في البحر.. ولم تهلك الكفار والمشركين..ولم تخرج دولة فلسطينية واضحة المعالم إلى الوجود.!


ومن المؤسف أن تجار القضية الفلسطينية يجدون في الشعارات القومية والإسلاموية خير وسيلة لإلهاء الشعوب العربية عن مطالبها الحقيقية، و بالتالي أسر وعيها في اطر طوباوية حينا، رومانسية وعاطفية أحيانا أخرى..وفي كل الأحوال تخسر الشعوب رهان النهضة والتقدم في بلدانها الأصلية، لأنها حبيسة الاوهام، وتخسر في الوقت نفسه “القضية القومية الأم”، أي القضية الفلسطينية.


أملنا أن يكون التقارب بين العرب وإسرائيل وعلى الخصوص إستئناف العلاقة الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل فرصة للمساهمة في بناء سلام حقيقي، أو ما أسماه الراحل ياسر عرفات، “سلام الشجعان”، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن يكون وسيلة – وليس غاية كما يفهم أصحاب نظرية المؤامرة منه دائما- لإسماع الضمير الغربي، الأمريكي على العموم، و القادة الإسرائيليين على الخصوص (سواء أكانوا متطرفين من اليمين او كانوا معتدلين من اليسار، مؤمنين بالسلام الحقيقي)،كلمة الحق، وأن يكون -أي التقارب- بوابة نحو البحث عن حل سلمي ملموس للقضية الفلسطينية.

ذلك الحل السلمي والواقعي الذي لا يعني شيئا آخر غير إرجاع الحق إلى اهله، والعمل، في ظل السلام، على بناء دولتين للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. ولا نعتقد أن الفلسطينيين أنفسهم يطمحون إلى شيء آخر غير تحقيق حلمهم في العيش بسلام ضمن وطن حر مستقل تكون القدس عاصمته الأبدية. ذلك ما نتمناه!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock