فن وثقافة

لقاء بطعم التاريخ والنضال والأمل 

 

عبد النبي الشراط 

قبل عشر سنوات، كنت التقيته بمدينة فاس، وتناولنا وجبة غذاء عند الصديق الأستاذ محمد الإدريسي، الصحفي اللامع بالإذاعة الوطنية بالرباط، وبعدها في إذاعة فاس الجهوية.

اتصل بي ذات يوم…

_ تعال للغذاء عندي بالبيت. ترددت معتذرا له…رد علي: 

_ ضروري أن تأتي… معي عبد الرفيع… ولم أكن لأرفض عرض الغذاء ولقاء عبد الرفيع.

بعد وجبة الغذاء خرجنا نتمشى في الشارع، لأن الإديسي وعبد الرفيع تربطهما صداقة متينة وقديمة جدا تمتد لتاريخ لا أعرفه بالضبط، لكن ما أعلمه أنهما كانا معا يشتغلان بالإذاعة الوطنية بالرباط بداية الستينيات من القرن الماضي، ولهما تاريخ مشترك في كل شيء، وكنت حديث عهد بمعرفتهما.

عبد الرفيع جواهري كاتب وسياسي وحقوقي ومناضل، اشتغل بالصحافة وبعدها التحق بمهنة المحاماة، ناضل في زمن كان فيه النضال ممنوعا نهائيا، لكنه ناضل وقاوم وظل متمسكا بالنضال وحقوق الإنسان وما يزال لحد الٱن صامدا كالجبل،

وهو قبل كل ذلك وبعده، شاعر كبير، ما زال المغاربة لحد الآن وسيبقون على مدى الأجيال يستمتعون بكلماته وقصائده الغنائية التي غناها كبار الفنانين والمطربين المغاربة.

(القمر الأحمر، راحلة، ياجار وادينا، الأمس القريب) والقائمة طويلة جدا..

ورغم تداعيات الزمن والمرض الذي عانى منه لسنوات، ما زال الشاعر هو الشاعر..

في كل مرة كنت أزور فيها مراكش كنت أتذكره، وأفكر بزيارته، لكن الظروف لم تكن تساعد مع الأسف، وأعود خائبا. 

قبل يومين من هذا التاريخ الذي أخط فيه هذه الكلمات عن الشاعر الكبير، اقترح علي الصديق الدكتور مصطفى بن علي، الأمين العام لحزب جبهة القوى الديموقراطية، أن أرافق وفدا من المكتب السياسي للحزب (بصفتي الصحفية) لزيارة قرية مولاي ابراهيم المنكوبة بسبب الزلزال المدمر الذي أصاب عددا من مناطق المغرب يوم الثامن من سبتمبر الجاري.

ترددت بداية كما ترددت حين دعاني الصديق الإدريسي لوجبة الغذاء… لكنني سألته عن توقيت الرحلة والعودة منها، فكان جواب الصديق بن علي مشجعا جدا. 

_ غدا الأحد نغادر الرباط باكرا ونعود في المساء.

فوافقت على الرحلة، لكنني استأذنته خلال عودتنا من مولاي إبراهيم نتوقف بمراكش وأن يمنحني الوفد فرصة لزيارة الصديق الأستاذ عبد الرفيع جواهري… وكان الرد سريعا من الأمين العام:

_ إذا لم تمانع سنقوم بزيارته جميعا رفقتك …

_ طبعا طبعا.. 

وتوقفنا هنا… أي اتفقنا على كل شيء.

أقلعنا من الرباط عند الساعة السادسة من صباح الأحد 17 سبتمبر/ أيلول 2023، وكان موعد لقاء أعضاء الوفد بمدينة مراكش، حيث استرحنا قليلا.

وأنت حين ترافق السياسيين، يجب عليك أن تتبع نظاما خاصا، سواء في السفر أو الاستراحة بمقهى، أو خلال لقائهم مع سياسيين ٱخرين ينتمون لتيارات أخرى… 

في مراكش كان في انتظارنا المحامي والنقيب السابق الأستاذ عمر أبو الزهور وٱخرون، فتبين لي أن زيارة عبد الرفيع بدأت تتيسر، ومباشرة اقترح عليه السيد بن علي موضوع الزيارة عند عودتنا من القرية المنكوبة فكان رده بالترحيب طبعا، خاصة وهو بدوره كان يرغب بزيارته، لكنه صدمني حين قال لي أن عبد الرفيع نُقل للمستشفى العسكري بالرباط بأمر من جلالة الملك للعلاج، واعتقدت أن حالته الصحية تدهورت، بالتالي لن أراه إلا بالمستشفى بعد العودة للعاصمة.. فطلبت من الأستاذ عمر أن يسأل فقط ليتأكد. وعلى الفور اتصل بنجل الشاعر عبد الرفيع الأستاذ هشام جواهري الذي يمارس بدوره مهنة المحاماة كوالده، فكانت المفاجأة سارة…

عبد الرفيع عاد من المشفى وهو مستعد للقائنا.

اتفقنا على المساء بعد العودة، وبدأ السياسيون يرتبون أمورهم.

صادفنا انعقاد دورة استثنائية لمجلس مدينة مراكش حيث انتقل الوفد لقاعة المجلس(سنعود لاحقا لهذا)، إنطلقت رحلتنا من جديد لقرية مولاي ابراهيم التي وصلناها عند منتصف النهار وغادرناها الساعة الرابعة مساء (سنفرد لهذا تقريرا خاصا).

عدنا لمراكش، وانطلقنا نبحث عن بيت الشاعر الكبير، استقبلنا نجله هشام بأحد شوارع مراكش الفسيحة ورافقناه للبيت…

هذا هو عبد الرفيع.. ما زال شامخا كالطود العظيم، نفس الابتسامة، نفس الإطلالة، نفس الحركة، هو هو… 

وبعد اطمئناننا على صحته، أخذنا الحديث لتاريخ مضى. فبدأ يحكي عن الأيام السوداء التي عاشها المغاربة، خاصة في تلك الحقبة، وعن تجربته في (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان) وبعدها عن تأسيس (المنظمة المغربية لحقوق الإنسان) واستضافته خلسة لقيادات حقوقية عربية وأجنبية، ورحلته مع التحقيقات (الأمنية البوليسية) بسبب استقباله لتلك الشخصيات، حيث كان حق المغاربة في شقه الحقوقي مغيبا… بل ممنوعا.

وتحدث عبد الرفيع مطولا عن فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمراكش فأكد أن فرع الجمعية كان من أنشط الفروع إطلاقا مستشهدا بعدة أحداث ووقائع، خاصة عندما استقبل الملك الحسن الثاني الدكتور المهدي المنجرة (رحمهما الله) بشأن تأسيس المنظمة الحقوقية الجديدة، حيث أعرب المنجرة للحسن الثاني أن لا رغبة له برئاستها، وطُوي ملف مَنع تأسيس تلك المنظمة… وسُمح لأعضائها ومؤسسيها بممارسة أنشطتهم الحقوقية (على قلة مساحة الحرية الممنوحة) الخ…

عبد الرفيع توقف كثيرا ثم قال: الحقيقة، لا أحد ينكر مساحة الحرية المتوفرة حاليا بالمملكة، لكن… ليس كما كنا نرجو…

في ختام الجلسة/ الزيارة، لم ينسى عبد الرفيع أن يهدي الوفد نسخا من تقرير الجمعية المغربية لحقوق الإنسان لسنتي 1981/ 1982.

ودعنا الرجل على أمل العودة وأن تتكرر الزيارة، بل الزيارات إن شاء الله. 

كلام أخير في هذه الجولة:

حين كان عبد الرفيع جواهري يتحدث عن محنته مع الحرية والتضييق والنضال من أجل حقوق الإنسان في المغرب، كنت أتساءل خفية… كيف أبدع عبد الرفيع في كتابة قصائد رائعة مثل: راحلة والقمر الأحمر وسواهما في تلك الظروف؟

سوف أحتفظ بهذا السؤال لحين زيارته في القريب العاجل إن شاء الله، وقد يكون لقاء مختلفا…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock