السياسة والثالوث المقدس -2-

ما علاقة السياسية بالمال والأعمال؟. وما علاقتهما بالأخلاق والإفلاس والشهرة؟ وما علاقتهما بجوهر «الإنسان»؟
د.المصطفى الشادلي.
تقوم «السياسة» على ثالوث مقدس أو على ثلاثة أسس أو أقانيم متينة:
أولها: «النظام»: فأي نظام سياسي لا ينجح في إرساء الوطن على «النظام» محكوم عليه بالفشل.
إن النظام في أبسط تصوراته هو العقلانية في التسيير والبرمجة والتخطيط على المديين المتوسط والبعيد.
ويعرف بأضداده وهي «اللانظام»، و«الفوضى» و«العشوائية» وما يدور في فلك هذه مفاهيم من معان.
وهو يتضمن معنى المنهج وما يتصل به من دقة ووضوح. وهو في فلسفته يخالف الصدفة.
هو إذن قاعدة منهجية يختارها السياسيون الحكماء لكي يبنوا عليها صرح دولهم وحياة شعوبهم.
ولذلك من الخطأ تعميم كلمة «نظام» وإطلاقها على كل شكل من أشكال الحكومات!. وربما استعملها البعض الآخر بمعنى قدحي وهجائي بالإشارة إلى حكم دولة ما معادية قائلا: «النظام الفلاني» كذا.
فليس كل تجمع بشري، في إطار دولة ما، يستحق ان يحمل اسم «نظام». وليس كل شكل حكومي جديرأ بحمل هذا الاسم!.
بل إن الكثير من الدول وما يسمى «أنظمة» تعيش الفوضى غير الخلاقة بكل ألوانها في كل مجالات الحياة.
كما أن توفر الدول على بنايات حكومية ووزارية ومؤسسات حاملة لشعارات “العدل” و”الصحة” و”التعليم” و”التجهيز” و”حقوق الإنسان” ..إلخ، لا يعني قيامها على «النظام». ففي الكثير من الدول تظل تلك البنايات والمؤسسات هياكل فارغة. وتظل شعاراتها أسماء على غير مسميات.
النظام هو «روح الدولة». و هذا الأخير لا يوجد حقيقة إلا حينما يكون للشعارات المعلقة على واجهات تلك البنايات والمؤسسات وجود حقيقي. أي عندما لا يكون وجودها مجرد وجود شكلي للاستهلاك الإعلامي، أو فقط موضة سياسية لمسايرة موضات العصر.
إن النظام هو الذي يمنح لدولة ما معنى، ويضمن استمراريتها. ولذلك رأينا كيف أن دولا تسمى عريقة انهارت بسرعة لا تصدق بمجرد تعرضها لزلزلة داخلية أو بفعل تدخلات أجنبية. ( كما حصل بالنسبة لدولة عراق صدام حسين )، ودولة ليبيا معمر القذافي) ودولة يمن علي عبد الله صالح)..وغيرها من الدول كثير.
و «النظام» هو الذي يشعر المواطن بانسيابية الحياة وتدفقها بشكل طبيعي. فالحياة الاجتماعية لا تكون سلسة إلا إذا ساد النظام في الطرقات وفي مرافق الحياة سواء أكانت إدارات ومصالح أو كانت مؤسسات وخدمات. وهذه المهمة موكولة لوزارات التجهيز والتخطيط وفروعها..
ثانيها: «الأمن»: إنه القيمة الروحية التي تشعر الناس بالانتماء إلى الوطن. وكلما افتُقد الأمن قلًّ التعلق بالوطن وفكًّرت الجماعات في الهجرة.
ولا يجب أن يُفهم من الأمن الجانب الاجتماعي الذي يحفظ للناس أرواحهم وممتلكاتهم فحسب بل يجب أن يُفهم منه المعنى العميق الذي يحيل على الثقة في الحاضر وفي المستقبل.
ولذلك حق القول بأن الناس لا يحيون بالخبز وحده، ولا يكتفون بالتمتع بالسلامة البدنية وإنما يحيون بالأمن الروحي الذي يجعلهم يطمئنون على مستقبلهم وعلى مستقبل أبنائهم وأوطانهم في نهاية المطاف ولا يخافون من المجهول.
من هذا المنطلق، يجب ألا تكتفي الدولة بتوفير مستلزمات الحياة المادية لمواطنيها أو تكتفي بإطعامهم من جوع فقط. بل يجب، إضافة إلى ذلك، أن تحميهم من أشكال الجوع الأخرى غير المرئية ومن أشباح الخوف المتعددة الأشكال. ولذلك قرن الله بين الجوع والخوف وجعلهما شرين في مرتبة واحدة. وجعل عميلة محاربتهما، منفصلين، غير ممكنة: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»(قريش أية4).
ثالثها: العدل: لطالما رددنا في أدبياتنا: «العدل هو أساس الملك» وأساس أي نظام سياسي كيفما كانت مرجعيته الايديولوجية والحزبية.
وهو الوجه الآخر لمفهوم الديموقراطية. ولا نخرج عن جادة الصواب إذا ما قلنا إن كل المعاني الراقية لمفهوم السياسة، مجتمعة، تدور حول هذا الأصل، أي مفهوم العدالة، والباقي من المعاني توابع وفروع. وأن كل الأمم الديموقراطية لم تكن كذلك إلا لأنها وعت هذه الحقيقة وأدركت أن حيازة مكانة تحت الشمس رهينة بإرساء أوطانها على سكة«العدالة».
وهذا ما يلاحظ بالنسبة للدول الناجحة في مجال الديموقراطية. لقد خاضت صراعات وأنجزت ثورات وأدت تكلفة بشرية باهضة، متمثلة في قوافل الشهداء، من أجل نشر العدالة السياسية والاجتماعية في مجتمعاتها.
والمواطن والشعوب عموما تثق في السياسة حينما ترى روح هذه الأقانيم الثلاثة سارية في مجالات الحياة. ترى النظام والأمن في الطرقات..وتلمسه في العلاقات الاجتماعية وتعيشه طبعا في القرى وفي المدن على السواء.
وتكبر السياسة في عيون المواطنين حينما يرون قيمة العدل في المجتمع مجسدة، وحين يرون خيرات الوطن وهي توزع بشكل متكافئ على الجهات، بحيث ينال كل ذي حق حقه من تلك الخيرات مباشرة، وبدون وساطات ومحسوبية وذلك حسب إمكانياته ومؤهلاته، وحسب تخصصه في مجال من مجالات الحياة.
ويقدس الناس السياسة حين يرون دولهم دول مؤسسات، الحقوق فيها مكفولة للجميع مهما تغيرت أسماء الحكام وألوان الأحزاب.
(11-1-2023)