السياسة والمال(1).

ما علاقة السياسية بالمال والأعمال؟. وما علاقتهما بالأخلاق والإفلاس والشهرة؟ وما علاقتهما بجوهر «الإنسان»؟
د.المصطفى الشادلي.
حينما نتدبر معنى السياسة في المعاجم العربية والغربية لا نجد بالتأكيد ،لا من قريب ولا من بعيد، أية علاقة بين مفهومي «السياسة» و«المال».
فكيف تم المزج بينهما؟، وكيف تم الزواج غير الشرعي بينهما؟.
وكيف بُجلت السياسة وعُبدت وذُبحت القرابين الثمينة على أعتابها، وصار الكثير يطرق أبوابها ويمضي عمره باحثا عن منفذ إلى قلاعها؟. ولماذا احتُقِر الكثيرُ من المهن الجليلة التي كانت ولا تزال هي عماد الوجود الإنساني وعصب الحياة مثل الفلاحة والصناعة والتعليم، لدرجة أن الكل، في أيامنا هذه، صار يفكر في هجر موقعه الطبقي ومهنته والالتحاق بعالم السياسة وبركب السياسيين الأجلاء.
وهل كان ذلك بسبب أن “السياسة” تقدم لروادها شهرة وتمنحهم بطاقة دخول إلى عالم الخلود أم لأنها مجال للكسب والاغتناء السريع وبلوغ الأهداف بسرعة البرق وتحقيق الأماني بدون جهد وعناء؟؟ ..
وهل السياسة تتضمن في جوهرها معنى الغنى أم هي بريئة منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب؟. وإذا كانت بريئة كيف سمح البعض لنفسه أن يؤوِّلها حسب مزاجه المرضي وانطلاقا من مرجعيته الايديولوجية، ويفسرها من منظوره الطبقي وانتمائه الحزبي، ويجعلها مرادفا للمال والأعمال والغنى ولغيرها من المفاهيم التي تدور في مجال الممتلكات المادية؟؟.
فحينما نتدبر معنى السياسة في أبسط تعريفاتها في القواميس العربية، نكتشف بأن جوهرها لا يخرج عن نطاق «حكم الناس وتولي قيادتهم وإدارة شؤونهم».
ونكتشف كذلك، انطلاقا من تدبر اصطلاح «المال» في المعاجم العربية والغربية، أن مفهومه لا يخرج عن نطاق كونه «أي سلعة يمكن استخدامها للتجارة، أوحدة للحساب ولتخزين القيمة».
وقد يمكن التوسع في هذا الإطار وإدخال كل الممتلكات المادية تحت مظلة المال، أي كل الكنوز والعقارات، والمجوهرات. أي ما له أصل ثابت ولا يمكن نقله وتحويله من مكان لأخر، أو ما يمكن نقله مع تغير هيئته وشكله(مثل الدور والأراضي..والشجر). وما أمكن نقله وتحويله من مكان لآخر مع بقاء هيئته وشكله( كالسيارات والكتب..)
وعلاقة الإنسان بالمال سواء كان في شكل عملة مادية (درهم أو دولار..) أو في شكل ممتلكات مادية علاقة قديمة تتصل بالمرحلة الأولى التي خرج فيها الإنسان من طوره الحيواني، لما كان يعيش منفردا في الغابات والكهوف..، إلى الطور الإنساني حيث بدأ يستقر في شكل تجمعات وعشائر وقبائل داخل قرى ومدن.
فتعقد العلاقات الاجتماعية وتداخل المصالح بين الناس دفعا الإنسان إلى ابتكار طريقة لتبادل المواد والمصالح والخدمات. فكان أن ابتكر «العملة».
هل كانت العملة هي وسيلة التعامل الوحيدة بين الناس؟. طبعا لا.
فإلى جانب التعامل المالي المادي والعيني حافظ الإنسان على آليات تعامل رمزية، تتمثل في الهدايا، والإكراميات الرمزية، وقرى الضيوف..
كما لا زال يحافظ على أساليب تعامل غير محسوسة أخرى تلعب الدور نفسه الذي تلعبه العملة، وتدور كلها في مجال محدد اسمه «الأخلاق». فلازالت هذه الأليات الأخلاقية المعنوية والرمزية سارية المفعول في مجتمعنا ، وتتجلى في التضحية بكل أشكالها: فلا يمكن القول، بأي حال من الأحوال، إن الرجل الذي يضحي بنفسه من أجل إنقاذ غريق في اللحظات الحرجة قد قام بما قام به من أجل الحصول على مقابل مالي من الضحية.
حسبه أن يتغنى المجتمع بفدائه وجرأته. وحسبه أن يبنى له تمثال في ساحة عمومية ويذكر التاريخ اسمه. هذا الجزاء هو جزاء معنوي بدون شك. وربما كانت قيمته أكبر من قيمة جزاء مادي قد يحصل عليه منقذ من غريق سواء كان في شكل ريع أو نقود.
معنى هذا أن هناك أشكالا معنوية وطرق تسديد أخرى للفواتير، وأن هنالك أنواع عملات أخلاقية للأداء ما تربو قيمته على الماديات:
فلا يزال العمال في البوادي المغربية إلى عهد قريب يقدمون خدمات سواء تعلق الأمر ببناء بيوت أو حصاد زرع بدون مقابل مادي غير وجبة غذاء أو عشاء يقدمها صاحب البيت أو الفلاح لهم.
وفي أغلب الأحيان يكتفي مقدمو الخدمات من بنائين ومزارعين بتلقي دعاء صالح ( الله يرحم الوالدين)صادر عن المخدومين. وكانت هذه الأليات الأخلاقية تقوم بدور كبير في تحريك عجلة الخدمات من حرث وحصاد وبناء، وكانت تقوم مقام العملة المادية. ولم يكن هناك توقف للحياة ..
وبدون التعمق في تاريخ النقد والتعامل المالي بشكل عام وتطوره في كل الحضارات، حسبنا الاكتفاء بمثل عهد الدولة الإسلامية الأولى، دولة النبي محمد (ص). فخلال هذه الفترة كان مفهوم المال يحيل على مفهومي العيني والأخلاقي معا. وكانت مصادر بيت المال التي أسسها المسلمون في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين تتكون من الزكاة والخراج ، والغنيمة، والفيء(أي ما تحصل للمسلمين من عدوهم بغير قتال ، ومنه ما أفاء الله على رسوله..( سورة الحشر أية 7) والأوقاف.. وكان النبي (ص) بصفته رئيس الدولة الإسلامية الفتية يعين أمراء الأقاليم ويكلف كل أمير بجمع الصدقات والجزية واخماس الغنائم والخراج. وظلت وضعية بيت المال على هذه الحال إلى حدود عهد بني أمية حيث بادر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 695م إلى صك النقود، بالرغم من إشارات بعض المصادر التاريخية إلى أن هذا الخليفة لم يقم بغير تنظيم عملية الصك التي كانت معروفة قبله في عهدي عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان.(يراجع في هذا الباب كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد).
ومع تطور عصور الحضارة وتعقد العلاقات الاجتماعية وتشابك المصالح الإنسانية ظهرت طبقات اجتماعية ترى في التعامل المادي “المالي والنقدي” أساس العلاقات الاجتماعية، والوسيلة المثلى لتحريك قاطرة الخدمات. فرأت أن مفهوم ” الأجر” مقتصرا على نسبة محصول زراعي (قمح أو ذرة أو شعير) يقدمه الفلاح لأعوانه، أو على قيمة أخلاقية ما، لم يعد يفي بالحاجة ويلبي الطموحات إلى الغنى. فكان لا بد من اختراع مقابل رقمي مادي من خلال صك عملة مالية كيفما كانت تسميتها حسب الدول والعصور. أكيد لم يعد «الريع» المرتبط بنوعية المحصول الزراعي ولا «المقايضة» في المجال التجاري قادرين على مسايرة تطور الحياة والاستجابة لطموحات الناس. فكان لا بد من أن تسيطر النقود والعملات المادية على مجال التعامل. وبدأت الطبقات الاجتماعية تتعود على هذه الطريقة الجديدة وتتخلى تدريجيا عن أشكال التعامل التقليدي في مجال البيع والشراء وفي مجال الخدمات عامة.
ثم جاءت الأوراق النقدية لتزاحم العملة المعدنية في مجال التعاملات المالية. وجاءت الحضارة المعاصرة بمؤسسة «البنك».. وابتكرت التكنولوجيا الحديثة تقنيات جديدة في مجال التعاملات المالية مثل «البطاقة المغناطيسية»، لسحب الأموال كما اخترعت برامج وأرقام سرية لتحويل المودعات المالية وتيسير نقلها إلى أصحابها..وكل ذلك يسر، بدون شك، طرق التعامل المالي.
ولقد تبنت الامبراطورية الرومانية منذ وقت مبكر التعامل النقدي فكانت العملة النقدية التي تحمل صورة الامبراطور “هرقل” والكتابة باللغة الرومانية منتشرة حتى في البلاد العربية.
وبطبيعة الحال ليس كل الناس قادرا على امتلاك العملة. وذلك لاعتبارات كثيرة أبرزها أن الدول المركزية هي التي كانت تصك العملة باسم ولي أو خليفة أو حاكم. وكانت دور السكة تصنع النقود وكانت وزارات بيوت المال أو ما يعرف الآن بوزارات المالية هي التي تحتكر العملة. وطبعا توزيعها بين الناس ليس بالأمر السهل. وليس بإمكان كل طبقات المجتمع الاستفادة من هذه العملة بشكل مباشر لأن توزيعها خاضع لمجموعة من المعايير.
كانت الدول تنفق أولا على الجيوش لحماية حدودها، وكانت تنفق على موظفي الدولة وعلى خدامها. وغالبا ما يتم ذلك في حدود ضيقة أي في حدود الدولة المركزية التي لا تتعدى مساحة صغيرة وضيقة. فبالرغم من امتداد الدول في شكل امبراطوريات كانت حدود السلطة المركزية ضيقة، أي أن جوهر الدولة وروح الحكم والسلطة عناصر لم تكن تشمل كل أطراف الامبراطوريات الشاسعة.
فنظرا لانعدام وسائل التواصل والتنقل لم يكن الحكام ولا الولاة قادرين على تغطية كل جغرافيا الأوطان سواء على مستوى الإعلام او الزيارات. وقليل منهم من كان عرشه على ظهر فرسه مثل السلطان مولاي الحسن الأول، رحمه الله، الذي قضى عمره في الترحال بين جهات المملكة.
أما الحكام الكسالى في الماضي فلم يكونوا يخرجون عن حدود العاصمة. ولا يعرفون ما يدور في القرى والمدن النائية. ولذلك تظل جهات مهمشة كثيرة تعيش خارج التاريخ، ويظل الناس خارج مفهوم الدولة لا يعرفون حدود وطنهم، وطبعا لا يعرفون حتى أسماء حكامهم. والذي يهمنا في هذا الإطار أن الأغلبية الساحة من الشعب لا تستفيد من العملة الوطنية. وقليل منهم من يحظى بلمسها أو مشاهدتها. وبالتالي يتعذر عليهم الوصول إلى خيرات بلدانهم. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، ليس كل الناس قادرا على اقتحام المجالات التي تسمح لهم بمراكمة الأموال وتبييضها، وليس كلهم مؤهلا لخوض المنافسة في المجال التجارة والربا.. وليس كلهم عارفا بأسرار التكنولوجيا الحديثة المرتبطة بمجال المال والأعمال، لأن النخب وحدها هي المحظوظة والتي تعرف كيف تنسج الشبكات المصلحية وتسلك السبل إلى مصادر المال والثروات.
لكل هذه الأسباب مجتمعة كان الحرمان هو نصيب الأغلبية الساحقة من الطبقات الشعبية في الماضي وفي الحاضر العربي. فكانت الأغلبية اليائسة من الحصول على نصيبها من خيرات بلدانها تيأس وتهجر الدنيا وتزهد في متاعها. ولذلك حفل التاريخ العربي بطبقات الزهاد ممن كتبوا دواوين شعر تذم الدهر وتدعو إلى الصفاء الروحي والتعالي على المحسوس والرفرفة في عوالم الغيب و تمنية النفس بأغلى الأماني، ألا وهو الحصول على أفضل موقع في جنة عدن، والاستمتاع بلا حدود بنعيمها اللامحدود، والمتمثل في أنهار الخمر والعسل واللبن ولحم طير مما تشتهي الأنفس.. والاستمتاع بحور العين ..فنصيبهم ليس في أوطانهم، وفي هذه الدار الفانية وّإنما في الدار الآخرة الباقية والتي فيها كل ما يُشتهى. وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولقد دفع اليأس طبقات اجتماعية كثيرة – خاصة في عهد الرومانسية- إلى الفرار من الواقع المثقل بالإحباطات وأشكال الحرمان إلى حضن الطبيعة الرحيم وإلى عوالم الخيال الرحبة حيث يمكن للنفس الإنسانية أن تجد عزاءها المنشود..
كما دفعت أشباح الفقر، في عهود الظلم والطغيان، طبقات شعبية عريضة إلى العيش في عوالم «ألف ليلة وليلة» المليئة بكل صنوف المتع الحسية والخيالية. فوجدوا فيها ملاذهم ومتنفسهم فاستغنوا بها عن واقعم المفعم بالبؤس وبالخيبات.
أما الشرائح الاجتماعية الأخرى من المحرومين، المسروقة حقوقهم، والذين لم يجدوا منفذا إلى بيت المال في بلدانهم فما كان أمامهم من وسائل التعويض عن حرمانهم غير وسيلة «الحلم». كان عليهم أن يعيشوا على الأحلام. عليهم أن ينتظروا زيارات “بوغطاط” لمخادع نومهم، ذلك الكابوس الليلي الذي تزعم الحكاية الشعبية أنه رجل ثري يكدس أموالا تحت طاقيته. وما على النائم الذي يجد نفسه فجأة تحت ثقله وسطوته أناء الليل سوى أن ينتهز الفرصة الثمينة ويمد يده خلسة إلى طاقيته لاختلاس أمواله..
لكن في مقابل المهمشين والمطرودين من رحمة أوطانهم هناك طبقة تستفيد بشكل مطلق من خيرات البلدان، ويتعلق الأمر بحاشية الحكام والمقربين من مراكز السلطة والذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، والبارعين في فك شفرات الحكم والمالكين لمفاتيح السلطة والقادرين على الوصول إلى دواخل قلاعها من كل المنافذ. هؤلاء، وهم كثر، يتكونون من السياسيين الأذكياء فوق العادة، ومن المتحزبين الوصوليين، ومن المنافقين الجشعين، ومن السياسويين المحتالين وغيرهم…
( يتبع)
•( 8-1-2023)