زلزال الجنوب جدد اللحمة الوطنية بين المغاربة..تضامن واسع وسخاء لافت

مراكش/ عبد النبي الشراط
ا(يوم الثامن من سبتمبر/ أيلول 2023،) سيبقى هذا التاريخ عالقا في أذهان هذا الجيل وما بعده من الأجيال ليس عند المغاربة فقط، بل لدى كافة الشعوب من جميع أصقاع الأرض..
كانت بحق فاجعة تفوق كل وصف لغوي، أو تعبيري، إنها ماساة بكل المقاييس وإذا كانت أغلب مناطق المغرب تعرضت لهزة أرضية عنيفة أو متوسطة، فرضت على المغاربة الخروج للشارع ليلا وقضاء ليلة سوداء في العراء فإن منطقة الجنوب وتحديدا في إقليم الحوز كان الحدث جللا والمصاب ألما، والحزن عميقا، إذ لحد كتابة هذه السطور فإن عدد الشهداء يقترب من الثلاثة ٱلاف شهيد وشهيدة، ناهيك عن أن قرى دمرت بالكامل وأصبحت في خبر كان.
البيوت انهارت وسويت بالأرض، وكأنها “قيامة مصغرة” عاشها الناس في يومهم ذاك.. يوم مشهود بلا شك.
وإذا كان المغاربة ومعهم الإنسانية جمعاء سيتذكرون دوما هذه الكارثة فإنهم لن ينسوا أبدا حجم التضامن الشعبي العفوي من كل مغربي ومغربية قدرت لهم الحياة فهبوا جميعهم وبدون تعليمات أو قرارات أو أوامر، هبوا لنجدة الناجين المتضررين الذين فقدوا أعزاءهم وممتلكاتهم وبيوتهم فكان “التضامن” عملة نادرة حُفظت باسم المغاربة وحدهم.
فمنذ صباح اليوم الموالي لليلة السوداء في التاسع من سبتمبر/ أيلول، أصبح الناس ينادون فيما بينهم نداء موحدا لا خلاف عليه ولا اختلاف فيه (التضامن) وفتحت المكاتب والمحلات التجارية لجمع التبرعات فلبى المغاربة رجالا ونساء نداء الوطن فازدحمت الطرقات بقوافل الإغاثة على مدى أسبوع كامل، وما زالت مستمرة لحد الٱن (23/9/19) وسوف تستمر إلى فصل الشتاء.
من جانبها كانت الدولة المغربية في مستوى الحدث حيث جندت منذ الساعات الأولى كل إمكانياتها للقيام بما يجب القيام به، حتى أن المساعدات كانت تنزل من الطائرات بالنسبة للأماكن الجبلية الوعرة التي يتعذر على وسائل النقل الأرضية الوصول إليها، وكانت “القوات المسلحة الملكية” في مستوى الحدث بالإضافة لباقي المكونات الأخرى من “الدرك الملكي” و”القوات المساعدة” ورجال ونساء السلطة ورجال ونساء الأمن الوطني بمختلف رتبهم ومستوياتهم..، فلم تعد هنالك ألقاب ولا رسميات فالكل يشتغل على الأرض.
المجتمع المدني ممثلا في الجمعيات الجادة كان حاضرا بدوره في “المعركة” معركة الإغاثة والبناء، حتى الشخصيات والأشخاص العاديين لم يتخلفوا أبدا عن تسجيل بصمة للتاريخ.. تاريخ المغاربة والإنسانية، ولم يقتصر الأمر على المغاربة القاطنين بالداخل، بل أن كل المغاربة المقيمين خارج أرض الوطن وفي مختلف دول العالم بأسره كانوا في مستوى الحدث، لقد ذُهل العالم أمام تضامن المغاربة حتى الفقراء منهم لم يتخلفوا فهناك من تبرع بلتر زيت (وهو ما كان يملك) ومنهم من تبرع بنصف كيس من الدقيق وهو ما توفر لديه، وهناك من تبرعت بخاتم كان بأصبعها.. ولم يسأل أحد أين ستذهب هذه التبرعات ولمن؟ لأن جميع القلوب كانت متجهة إلى الجنوب، ولعل ما ميز هذه الحملة تلك القافلة الطويلة التي انطلقت من مدينة العيون عاصمة الصحراء المغربية مزينة بالعلم الوطني وصور جلالة الملك.
وعلى ذكر الملك فقد قال رجلا مسنا في منطقة “الزلزال” حينما رأى صورة الملك قال بعفويته الفطرية وسليقته البدوية، “إن هذا هو زرب البلاد وخا مايعطيناش” أي أن هذا (الملك هو سياج الوطن وحاميه ونحن نحبه بدون طمع).. وكان ملك البلاد على رأس القائمة كعادته، فلم يتخلف حتى عن التبرع بدمه وأعطى تعليماته الملكية لكل المسؤولين الحكوميين وغيرهم بإعادة البناء الفوري للبيوت التي تهدمت او تلك التي أصابها ضرر، وإيواء المتضررين وتوفير الحياة الكريمة لهم.
هذا هو المغرب وهؤلاء هم المغاربة الذين أعادوا كتابة التاريخ في شقه التضامني وكان شعارهم جميعا “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” وقد كان المغاربة جسدا واحدا وهم أول من انطبق عليهم هذا الكلام المأثور الذي يُنسب لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وٱله. بعد الصحابة.
وتنطبق الٱية الكريمة على المغاربة في قول الله تعالى “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” وقد ٱثر المغاربة على أنفسهم فتبرع فقراؤهم بكل ما يملكون.
وإذا كان هذا “الزلزال” حقيقة نقمة وخسارة وألم وحزن وحداد، فإنه من دون شك حملت هذه النقمة نعما كثيرة علينا وعلى الكثير من خلق الله.
ملحمة التضامن:
أمام ما جرى، كان لابد للمرء أن يقف ولو على بعض مما جرى… لأن هناك فرقا كبيرا بين أن تتابع الأحداث عن بعد وأن تقف عليها بنفسك على الأرض.
في زيارة قادتنا ضمن وفد إعلامي وسياسي إلى إحدى المناطق المنكوبة، وكانت الوجهة منطقة “مولاي ابراهيم” ضواحي مدينة مراكش، وعلى مدار الطريق الرابط بين مراكش ومنطقة مولاي ابراهيم كانت الخيام التي تأوي المتضررين شاهدة على هول الفاجعة، وكان التوقف عند بعضها ضروريا للاطلاع على ما جرى، ومما لاحظناه أن النساء هناك عندما يرون الغرباء يهرعن إلى داخل خيامهن، فالمنطقة محافظة جدا ولذلك كان حديثنا يقتصر مع الرجال فقط.
داخل حضرة الولي الصالح مولاي ابراهيم
اشتهر هذا الضريح بكثرة زواره من كافة أنحاء المملكة ومن خارجها أيضا، وهناك حكايات تروى عن شفاء الكثير من الأمراض وهناك من الذين يقيمون به مددا طويلة، وبالرغم من أن صومعة المسجد المجاور للضريح سقطت فإن قبة الضريح ظلت صامدة بالرغم من تشقق جدرانها، وخلال جولة ميدانية داخل أزقة مولاي ابراهيم الضيقة جدا اصطحبنا فريق جمعية “ٱفاق” إلى بناية أسمنتية لم تتضرر أبدا بهول الزلزال، وتضم البناية نساء عجزة (متخلى عنهن) يستفدن من الطعام والشراب واللباس والإيواء مجانا، وهذه البناية يُطلق عليها إسم “المزاوگات” أي الطالبات الراغبات، أو المترجيات.
الحقيقة أن الدمار كان قويا، والفاجعة كانت أقوى.
سألنا عن “المجتمع المدني” فكانت جمعية “ٱفاق الثقافية والاجتماعية” وحيدة في المنطقة حيث بدورها سلم مقرها من الزلزال، حيث تجند رئيسها وأعضاء مكتبها التنفيذي ومنخرطيها للعمل ليل نهار إذ يُستخدم مقرها الٱن خصيصا لجمع التبرعات والمساعدات الغذائية والألبسة والأدوية، وفي نهاية كل يوم يتكفل عضو من أعضائها بتوصيل المواد الغذائية لسكان الدواوير المجاورة للمنطقة، وقد لاحظنا أن جميع مرافق مقر الجمعية ممتلئة بالأدوية والمواد الغذائية والألبسة، وبالرغم من أن الدولة منحت مركز مولاي ابراهيم 250 خزانة للإيواء فإنه ما زال هناك خصاصا على هذا المستوى، ويعمل أعضاء جمعية ٱفاق جاهدين ليل نهار لتوفير حاجيات الناس التي يعتمدون فيها على مساعدات السلطة وهي حاضرة طبعا، وكذلك المساعدات التي تأتي من الجمعيات والأشخاص من داخل وخارج المغرب.
وإذا كانت الدولة المغربية قد أرجأت أو رفضت المساعدات من الكثير من الدول باستثناء أربعة منها فقط، فإن الشعب المغربي كان في مستوى كل التطلعات وأعلن المغاربة من الشمال والجنوب والشرق والغرب أنهم جسد واحد جسد الشعب والدولة.